جميل مطر يكتب.. "الثورات تتعب"
هذا المقال بقلم الكاتب جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
الثورات كالمعادن تتعب. والثورات الدائمة أو الممتدة باهظة التكلفة، درسان من دروس التاريخ تأتي التطورات في هونغ كونغ لتؤكدهما أو على الأقل لتذكر بهما.
ومع ذلك فقد لا يكون دقيقا تماما وصف حالة هونغ كونغ خلال الأسبوعين الماضيين بالحالة الثورية. وإن كانت بعض التفاصيل لا تختلف كثيرا عن تفاصيل تطورات مماثلة وقعت في دول شرق أوروبا والربيع العربي، واستحقت عند ذاك صفة الثورة. المؤكد أن تصرفات.الثوار.ومتوسط أعمارهم لم يختلف في معظم الحالات. يبدأون متمسكين بقواعد التظاهر السلمي، ويلجأون لابتكارات وإبداعات تلفت اهتمام كاميرات التصوير وتصنع مادة خصبة لوسائط التواصل الاجتماعي والإعلام العالمي. أغلبيتهم العظمى في سن الشباب وكثيرون منهم من طلبة الجامعات والخريجين الجدد. مطالبهم حقيقية ومشروعة وصادقة. يحلمون بالتغيير ويجددون بمظاهراتهم وشعاراتهم دماء الوطنية والأمل في مستقبل أفضل، ويصدرون بصمودهم وحماستهم حكما قاطعا على فساد طبقة سياسية وبيروقراطية حاكمة.
على الناحية الأخرى، تقف السلطة، كما وقفت في كثير من المواقع آخرها في هونغ كونغ مسلحة باتهامات وآليات معروفة. فالثوار مدفوعون من الخارج ويتحركون وفق خطة مدروسة. تتفادى السلطة المواجهة لمرحلة معينة، هي المرحلة الكافية لإثارة الشكوك في نوايا الثوار وشق صفوفهم، تأتي بعدها محاولات استفزازهم وتسريب عناصر تخريب مدربة. تعتمد السلطة في خططها على عوامل متكررة في معظم الحالات، وهي ضعف قوة احتمال الثوار لتقلبات المناخ والجوع والعطش والابتعاد عن أهاليهم ومساكنهم من ناحية ونفاذ صبر المواطنين غير المشاركين، حتى وإن كانوا من المتعاطفين، ورغبة متصاعدة لدى الأكثرية العظمى في عودة الحياة الطبيعية ووقف الفوضى التي تسببت فيها الاعتصامات والمظاهرات وتلك التي اصطنعتها السلطة، وفي الغالب ينتصر بشكل مطلق أو مؤقت الطرف صاحب النفس الأطول.
في هونغ كونغ، كما في غيرها، اعتمد الثوار على التغطية الإعلامية الدولية وعلى الدعم السياسي من جانب الدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة. ولكن على خلاف ما حدث في دول الربيع العربي وفي شرق أوروبا وأوكرانيا مؤخرا، شعر ثوار هونغ كونغ منذ البداية بضعف اهتمام الإعلام الغربي بثورتهم مقارنا بالاهتمام المبالغ فيه والدعم اللانهائي من جانب الغرب لثورات الربيع وأوروبا الشرقية.
لفت نظري بالفعل هذا التردد من جانب الغرب تجاه تطورات "الثورة" في هونغ كونغ، وربما استطعت فهم العقل السياسي الغربي الذي دأب في السنوات الأخيرة على الإسراع بإعلان دعم أي انتفاضة شعبية في أي بلد من بلدان العالم الثالث.
هذه المرة، فيما أتصور، كان واضحا لي شخصيا أننا أمام وضع مختلف.
أولا: نحن أمام انتفاضة شباب في مدينة واحدة في دولة .ناجحة. بحكم كل مقاييس القوة الاقتصادية والدولية. بينما في التجارب الأخرى، وبخاصة تجربة الربيع العربي، نشبت الانتفاضات في عواصم ومدن كبرى عديدة في دول "غير ناجحة" حسب المعايير نفسها.
ثانيا: فيما يتعلق بحالة هونغ كونغ تحديدًا، يصعب اتهام السلطة في بكين بأنها أخلت بتعهداتها لشعب المدينة. لقد أوفت حكومة بكين بكافة التزاماتها التي تعهدت بها خلال مفاوضاتها واتفاقاتها مع الحكومة البريطانية. تعهدت فأوفت باحترام الوضع السياسي الداخلي في هونغ كونغ طبقا لمبدأ دولة واحدة بنظامين.
لا يستطيع مواطن عاش سبعة عشر عاما تحت السيادة الصينية الادعاء بأنه لم يتمتع بحياة كريمة في ظل احترام القانون، واستقلال القضاء وحرية التعبير وحريات أخرى نص عليها القانون الأساسي الذي مهد لاستقلال هونغ كونغ.
ثالثا: هي انتفاضة ربما استباقية، بمعنى أن الشباب في هونغ كونغ انتابهم القلق من احتمالات المستقبل وبالذات حين تنتهي فترة الخمسين عاما التي نص عليها الاتفاق. يخشون أن النص الوارد في الاتفاق على أن تشكل الحكومة المركزية في بكين لجنة تختار المرشحين للانتخابات المقررة في 2017 لشغل منصب محافظ هونغ كونغ، قد يعني بداية تدخل مباشر من حكومة بكين في شؤون الجزيرة. في هذه الحالة يكون الثوار هم الخارجون عن الاتفاقية وليس حكومة الصين، التي مازالت في نظر العالم الخارجي تنفذ بأمانة نصوص الاتفاق.
رابعا: نشهد نحن دارسو تاريخ الصين الحديثة على أن أهل هونغ كونغ لم يمارسوا الديمقراطية على امتداد أكثر من 150 عاما هي عمر الاستعمار البريطاني للجزيرة. كان حكما استعماريا بمعنى الكلمة كالحكم الذي عاشت في ظله وثارت ضده معظم مستعمرات بريطانيا. وإن جرى تجميله في هونغ كونغ خاصة بمبادئ وأفكار ليبرالية باعتبارها صالة عرض للرأسمالية الغربية على أبواب أكبر حالة شيوعية في العالم. وبالفعل استطاع الإنجليز خلال فترة الاستعمار فرض اللغة الانجليزية كلغة التجارة والمال والبيروقراطية المهيمنة. هكذا غرست بذور ثقافة مضادة لثقافة الأغلبية العظمى من الصينيين. ورغم ذلك نجح الحزب الشيوعي في الصين في اختراق الجزيرة خلال حكم الرئيس ماو تسي تونغ، محاولا بنجاح المحافظة على الروابط الأخلاقية التاريخية، ومن بعده اعتمدت حكومة الرئيس دينغ شياوبنغ الإصلاحية على هونغ كونغ كنافذة على عالم التجارة العالمية، فازدهرت هونج كونج وتعمقت المصالح المشتركة بين أكبر العائلات في الجزيرة ومواقع السلطة في الصين. معظم هذه العائلات تقف الآن ضد انتفاضة الشباب في هونغ كونغ.
خامسا: عاش أغلب سكان الجزيرة فترة الاستقلال مستفيدين من وضعهم المتميز أصلا في التعليم والتجارة والدخل بالنسبة للفرد والخبرة المالية والبحرية، ومطمئنين إلى اعتماد الحكومة الصينية على الجزيرة باعتبارها الميناء الأحدث والمركز المالي الأهم في شرق آسيا، إلى أن اكتشفوا أنه في خلال السبعة عشر عاما تقدمت شنغهاي ومدن أخرى على الساحل الشرقي للصين تجاريا وصناعيا وتكنولوجيا إلى حد صارت هي المراكز الأقوى ماليا وتجاريا وثقافيا. بمعنى آخر دخلت هونغ كونغ مرحلة الأفول.
سادسا: لا يوجد في الغرب سياسي عاقل يتمنى أن تشهد الصين.ثورة ربيع "أو ما شابه. قد لا يوافقون في واشنطن ولندن على نظام الحكم في الصين. ينتقدون القيود على الحريات، والنقص في استقلال القضاء والمبالغة في سطوة الحزب الواحد، ولكنهم لن يغامروا بمستقبل الاقتصاد العالمي، إذا وقع في الصين ما يشل الحركة ودخلت حكومات الغرب في حملة لدعم اضطرابات أو انتفاضات أو ثورات تهدد الاستقرار في الصين.
بل قد أذهب بعيدا واعترف باعتقادي أن المعاملة الناعمة التي يلقاها قادة الانقلاب العسكري في تايلاند، والنظام الحاكم في فيتنام، والتفاهمات الجارية مع حكام ميانمار العسكريين، كلها إشارات تعكس رغبة غربية، وربما أمريكية خالصة، لتفادي خلق أوضاع تهدد الاستقرار والأمن في الدول المتاخمة للصين. بمعنى آخر، يسعى الغرب، وأمريكا خاصة، إلى المحافظة على الوضع القائم في منطقتي جنوب شرقي آسيا وشرق آسيا إلى حين تسمح الظروف في أوروبا والشرق الأوسط بأن تستأنف واشنطن مشروع نقل بؤرة تركيزها في السياسة العالمية إلى هناك.
لا أعتقد أن أحدا في القيادة الأمريكية في واشنطن يتمنى أن يرى انفجارات شعبية في مناطق الهوامش الصينية الساخنة، أي في التبت وسينكياني وهونغ كونغ وتايوان. إن العائد المعنوي للديمقراطية كما يفهمها الغرب ويروج لها نتيجة.ثورات" تنشب في هذه المناطق لا يساوي بأي حال العائد المخيف على الأمن والسلام في شتى أنحاء آسيا وبشكل خاص في شبه جزيرة الهند ونيبال وأفغانستان وجمهوريات وسط آسيا.
لا يعني التعامل الناعم مع انتفاضات أو.ثورات.جديدة في آسيا وغيرها، عزوف أمريكا ودول أخرى في الغرب عن دعم الحركات المطالبة بالتغيير، ومع ذلك يجدر بنا الانتباه إلى عناصر عديدة في العلاقات الدولية والإقليمية يسهم تضافرها في وقف أو تغيير مسار المد الثوري. هي فترة مهمة لضخ دماء جديدة في شرايين الثوار وتصفية مخزون الصبر لدى الأغلبيات الصامتة وسقوط عدد أكبر من رموز النفاق وإعادة تدوير مناصب الحكم.