عمرو حمزاوي يكتب عن ثمن السياسة المسؤولة في الحكومات الديمقراطية
هذا المقال بقلم عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
قد يمتلك بعض المسؤولين المنتخبين في الحكومات الديمقراطية شجاعة السباحة ضد التيار، وقد يتخذون من القرارات وينفذون من السياسات ما يرونه ضروريا لمواطنيهم ومجتمعاتهم ودولهم على الرغم من معارضة قطاعات شعبية واسعة. إلا أن صندوق الانتخابات الذي دوما ما تتحدد نتائجه وفقا لحقائق القبول أو الرفض الشعبي للقرارات والسياسات المطبقة كثيرا ما يفرض أثمانه الباهظة أو ينذر بفرضها على نحو يضع أولئك المسؤولين المنتخبين أمام اختيارات بالغة الصعوبة.
شيء من هذا يحدث اليوم للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. خلال السنوات القليلة الماضية، اتخذت السيدة المستشارة التي تقود ائتلافا حاكما يضم حزبها المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي (والأخير حزب إقليمي يرتبط بولاية بافاريا الواقعة في جنوب ألمانيا) قرارات كبرى لم يكن لها الكثير من القبول الشعبي بين مواطنيها.
تحملت الحكومة الألمانية العبء المالي الأكبر لمساعدة اليونان، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي وفي الاتحاد النقدي الذي يستخدم اليورو كعملة موحدة، على مواجهة شبح الإفلاس والشروع في إدخال إصلاحات اقتصادية واجتماعية ومالية وتطبيق خطط تقشفية تستهدف وضع الاقتصاد اليوناني على طريق الخروج من الأزمة.
قد يهمك هذا الفيديو: فتاة فلسطينية أبكتها ميركل تحصل على تصريح إقامة في ألمانيا حتى 17 أكتوبر 2017
وعلى الرغم من قبول أغلبية الناخبين الألمان لمساعدات مماثلة كانت حكومة المستشارة قد قدمتها لإنقاذ اقتصاديات دول أوروبية أخرى كإسبانيا والبرتغال واقتناعهم بضرورة الحفاظ على الاتحاد النقدي الأوروبي كعامل أساسي لاستمرار الرخاء في ألمانيا، إلا أن المليارات الكثيرة التي قدمتها ألمانيا لإنقاذ اليونان والضعف النسبي لإسهام الحكومات الأوروبية الأخرى والتعثر المتواصل للحكومات اليونانية المتعاقبة على الرغم من المساعدات الكبيرة جميعها عوامل رتبت شيوع حالة من الرفض الشعبي لسياسة المستشارة تجاه اليونان. واستغلت ذلك أحزاب وحركات اليمين المتطرف التي روجت، ومازالت، لفكرة وطنية زائفة مؤداها باختصار ثروة ألمانيا ومواردها للألمان.
***
مع الانفجار الكارثي لأزمة اللاجئين السوريين وطرق مئات الآلاف منهم لأبواب أوروبا بحثا عن الملاذ الآمن، دفعت المستشارة ميركل ائتلافها الحاكم لتبني سياسة شجاعة للترحيب باللاجئين السوريين وفتح أبواب ألمانيا لهم. موظفة لتعاطف الرأي العام الألماني مع الشعب السوري إزاء الأهوال التي يواجهها وأفراده يصارعون للنجاة من حرب أهلية مجنونة والأهوال الأخرى التي يواجهونها وهم يطرقون أبواب أوروبا في موجات من الهجرة غير الشرعية، أعلنت الحكومة الألمانية عزمها استقبال جميع اللاجئين الذين يتمكنون من الوصول إلى الأراضي الألمانية وعطلت تطبيق القوانين الأوروبية التي تلزم طالبي اللجوء بتقديم طلباتهم إلى سلطات الدولة الأوروبية الأولى التي يصلونها. ناشدت المستشارة مواطنيها الترحيب باللاجئين، ودعت القرى والمدن والولايات إلى توفير إمكانيات لائقة بإعاشتهم، ووعدت بمساعدات مالية استثنائية من حكومتها، وأنتجت خطابا إنسانيا راقيا عن اللاجئين الفارين بحثا عن الحق في الحياة والقادرين على الإسهام الإيجابي في المجتمع والاقتصاد الألمانيين.
كذلك.. فلاديمير بوتين: لم أقصد إخافة انجيلا ميركل بكلبي
غير أن المستشارة سرعان ما واجهت تراجعا واضحا في التعاطف الشعبي مع اللاجئين وتناميا للمشاعر السلبية إزائهم. وأسهمت في ذلك عدة عوامل موضوعية منها؛ الارتفاع الهائل في أعداد اللاجئين القادمين إلى ألمانيا (أكثر من مليون لاجئ في ٢٠١٥) على نحو أرهق طاقات القرى والمدن والولايات الألمانية، الضغوط الاقتصادية والمالية التي ألقى بها استقبال اللاجئين على كاهل الحكومة الألمانية وأجبرها على ضغط الإنفاق العام في مجالات مجتمعية أخرى، النشاط المتزايد لأحزاب وحركات اليمين المتطرف والعنصري التي قادت مسيرات شعبية ضد قرارات وسياسات المستشارة وتورط على هوامشها البعض في أعمال عنف ضد اللاجئين، السلوكيات الصادمة لأقلية من اللاجئين على النحو الذي ارتبط بكارثة الاعتداءات الجنسية الجماعية على النساء في أكثر من مدينة ألمانية أثناء احتفالات بدء العام الميلادي ٢٠١٦، شبهة تورط بعض القادمين إلى أوروبا كلاجئين سوريين في الأحداث الإرهابية التي شهدتها فرنسا في خواتيم ٢٠١٥.
وترتب على كل ذلك تراجع سريع في شعبية المستشارة التي بدأت في تغيير سياستها تجاه مسألة اللاجئين واتخذت مجموعة من القرارات التي تفرض العديد من القيود على استقبالهم أو بقائهم في ألمانيا أو قدوم أفراد أسرهم من سوريا أو من ملاذات أوروبية غير ألمانيا، وكذلك على الإعانات المالية المقدمة لهم. ومع تراجع الشعبية ارتفعت أصوات النقد للسيدة ميركل داخل حزبها وبين صفوف الحزب المسيحي الاجتماعي، وخرج بعض السياسيين على استحياء يدعون إلى البحث عن بديل قبل توالي انتخابات برلمانات بعض الولايات الألمانية وقبل الانتخابات البرلمانية الاتحادية القادمة. إلا أن الثمن الأفدح في كارثيته على المستشارة وحكومتها والسياسة الألمانية يتمثل في تصاعد وزن الأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة التي تبدو اليوم، خاصة حزب البديل لألمانيا، على مقربة من انتزاع مقاعد في برلمانات الولايات وفي البرلمان الاتحادي ومن ثم قادرة على دفع السياسة في ألمانيا إلى انحراف خطير نحو اليمين.