دماء غالية وأخرى أرخص من الرخيص

نشر
7 دقائق قراءة
Credit: Gokhan Tan/Getty Images

هذا المقال بقلم الصحفي إسماعيل عزام، ولا يعبّر عن رأي CNN بالعربية.

محتوى إعلاني

إسماعيل عزام -- في 14 من شهر مارس/آذار الجاري، قُتل 34 شخصًا في أنقرة وجرح حوالي 150، بسبب تفجير سيارة مفخخة في ساحة شهيرة وسط العاصمة التركية أنقرة. بعدها بأيام قليلة، وقعت تفجيرات بروكسل، الحصيلة هي مقتل 31 شخصًا بمن فيهم الانتحاريين الثلاثة وجرح أزيد من مئة شخص. بعد ما وقع في بروكسل بساعات قليلة، قُتل 41 شخصًا وجرح العشرات على الأقل في تفجير ملعب كرة قدم بالعراق، وليلة البارحة فقط قُتل 67 شخصًا على الأقل في تفجير انتحاري بباكستان.

محتوى إعلاني

أربعة اعتداءات إرهابية 'أو أكثر' في شهر واحد، أربعة اعتداءات راح ضحيتها مدنيون من أعراق وديانات وبلدان مختلفة، لكن، ورغم أن الإنسانية هي من نزفت في كل واحد منها، لم تُسل الاعتداءات الحبر ذاته ولا الشجب ذاته، إذ هيمن الهجوم في بروكسل على المشهد، بينما كان التطرق خافتًا لما وقع في أنقرة وبغداد ولاهور، حتى وإن كانت درجة البشاعة فيهم أسوأ ممّا وقع في بروكسل، وذلك باستثناء تقارير إخبارية هنا وهناك ومنشورات يتيمة على فيسبوك وتويتر.

قليلون من يتتبعون مسار القتلة في أنقرة وبغداد ولاهور، الغالبية تنشغل بمسارات الأخوين البكراوي ونجم العشراوي، كما انشغلت بمسارات عبد الحميد أباعود "أباعوض" وحسناء أيت بولحسن وصلاح عبد السلام. لحد الآن أسماء أبطال القتل في أنقرة وبغداد ولاهور لم تنتشر في الإعلام، كأن القتل في تركيا والعراق وباكستان تحوّل إلى طقس ممل لا يُسيل إلّا القليل من الحسرة ، بينما يتحوّل القتل في بلجيكا وفرنسا إلى مأساة عالمية تجمع البواكي من كل الأنحاء، كي  يذرفوا الدمع على دماء غالية.. أما الرخيصة فلا دمع ولا حسرة ولا حزن عليها، إلّا آهات الأمهات ووجع الأصدقاء وانكسار الأوطان.

كتبتُ عند وقوع هجمات باريس تدوينة قصيرة اعتقدت من خلالها أن مكان وقوع الحدث الإرهابي هو ما يجلب الانتباه أكثر من حصيلة القتلى، اعتقدت أن الإرهاب في مكان لم يعهد بقصص الموت يتحوّل إلى خبر لا يموت بسرعة، بينما كلّما تتكرّر أخبار الذبح في أماكن النزاع، كلّما تزيد من فقدان قيمة الحدث حتى ولو ارتفعت أرقام القتلى.. لكنني وجدت نفسي مخطئًا، فعندما يعمّ صمت مخجل عن الإرهاب في تركيا التي لا تعد منطقة نزاع ولا مساحة للموت، قد تسأل نفسك هل دماء من يصنّفون بالمسلمين أضحت رخيصة؟

قد يرّد قائل إن تركيا توجد في أخطر منطقة بالكرة الأرضية، أي منطقة الشرق الأوسط التي تحتضن "داعش" وجبهة النصرة وجيش بشار الأسد والعداء السعودي-الإيراني والتدخل الأجنبي وبلدانًا تعيش على كف عفريت من اندلاع شرارة الطائفية، وأن ما يجري في المنطقة يعدّ انعكاسًا على صورة تركيا حتى ولو كانت من أكثر بلدان المنطقة أمانًا، لكن لنا أن نتذكر أخبار مصرع إسرائيلي واحد أو إسرائيليين، وكيف يرتفع الشجب هنا وهناك وتنتفض الأسلحة للدفاع وبل ويتم قصف منازل فلسطينية بأكملها للرد، رغم أن إسرائيل هي الأخرى توجد في هذه المنطقة الدموية المسماة بالشرق الأوسط.

قد تسأل نفسك طويلًا هل دماء من يقتلون في بلدان تصنّف ضمن دائرة العالم الإسلامي أضحت رخيصة ولا تستحق التنديد نفسه الذي تحظى به دماء من يصنفون ضمن البلدان الغربية؟ في الكويت، في أندونيسيا، في العراق، في سوريا، في اليمن، في ليبيا، حتى في تونس التي شهدت بداية الشهر الجاري مصرع عدة مواطنين وأفراد من الأمن والجيش في هجوم بمدينة بن قردان، كل هذه الأقطار لا يصلح الموت فيها إلّا لخبر صحفي، وبعدها تعود الحياة، بسرعة تامة إلى مجراها؟ قد تسأل نفسك لماذا أضحت بشكل عام دماء من يصنفون ضمن سكان العالم الثالث رخيصة ما دام القتل في دول إفريقيا جنوب الصحراء لا يثير هو الآخر الكثير من الضجة؟

قد تسأل نفسك لماذا أضحت هذه الدماء رخيصة، وأكثر من يؤكدون نزول قيمتها هم أولئك الذين لا يتذكرون مسلمي بورما إلّا عندما يزور القتل الجماعي أوروبا أو الولايات المتحدة، كأنهم يحاولون إبراء ذمتهم واستعراض عضلات التضامن في فيسبوك وتويتر رغم أن الكثير منهم لا يعرف حتى موقع بورما ولا أسباب العنف تجاه الأقلية المسلمة هناك؟

قد تسأل نفسك لماذا ساهمت دول المنطقة في إنزال قيمة دماء شعوبها والكثير من هذه الدول لا تتوّرع في انتهاك حقوق الإنسان بإرسال المعارضين إلى السجون وأحيانا حتى تصفيتهم، والكثير من زعمائها يفضلون كراسي الحكم ولو حوّلوا أرجلها إلى سيوف لا تأخذ توازنها إلّا إذا انغرست أكثر في أجساد من يحكمونهم؟ قد تسأل نفسك لماذا يكون الفرد رخيصًا للغاية طوال حياته بأغلب بلدان هذه المنطقة كما سيكون رخيصًا عند مقتله ولن يُذكر منه سوى رقم تسلسي ومقرّ إقامة تحفظه الأجهزة البوليسية؟

قد تسأل نفسك الكثير من الأسئلة.. لكن الإجابة تمرّ حتمًا من أن العالم الذي يستهجن حياة سكان الدول المنصفة بـ"المسلمة"، لم يكن ليسمح لنفسه بذلك لولا أن الكثير من هذه الدول تعوّدت منذ عقود على استهجان نفسها بنفسها حتى عممّت فكرة للخارج مفادها أن كل من يحمل اسمًا يدّل على إسلامه أو على عربيته (دون تبخيس لبقية الأجناس والأعراق والأديان الأخرى في المنطقة) هو مشروع إنسان مقتول، لا ينفع مع موته الكثير من البكاء، ولا الكثير من الحسرة.

بسبب حرمان العديد من دول هذه المنطقة شعوبها من الحرية وانتهاكها المستمر لحقوقهم الجماعية والفردية، أضحت قيمة المواطن في هذه الرقعة الجغرافية رخيصة للغاية.. بسبب إيمان بعضهم أنه يمكنه التضحية بجزء من الشعب كي يُضمن ولاء ما تبقى، انتفت قيمة الجميع، وصاروا مجرّد أكفان تتمشى على الأرض، في انتظار عملية الدفن.

صفحة الكاتب على فيسبوك

نشر
محتوى إعلاني