متى ستتحول الأزمات العالمية المتعددة الجوانب إلى حوافز للحوار الصادق والعميق، لتحقيق نتائج تكون في مصلحة كل الأطراف دون تمييز؟ سؤال يطرح على المنتدى الاقتصادي العالمي المنعقد في المنتجع السويسري دافوس بين 22 و25 يناير/ كانون الثاني 2014، حيث تشارك كبريات الشركات متعددة الجنسيات والدول الصناعية والبلدان النامية، لمناقشة العلاقات الاقتصادية والمالية والتجارية العالمية وتحديات التنمية والبطالة والفقر.
بدأ المنتدى الاقتصادي العالمي أعماله أمس في منتجع دافوس السويسري، حيث من المقرر أن يبحث هذه السنة بالمتغيرات الدولية التي نتجت عن الأزمات المتتالية وتأثيرها على المجتمعات والسياسة والأعمال. ومعروف أن الازمات المالية والاقتصادية والبيئية (المناخية) وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، قد أثرت إلى حدِ بعيد على الجهود التنموية التي انطلقت مطلع هذا القرن. إذ تشير أكثر التقارير تفاؤلاً إلى أن هذه الجهود لن تؤدي إلى تحقيق أهداف الألفية مع حلول العام 2015 كما كان مقرراً في إعلان الالفية سنة 2000. ولتدارك انعكاسات ذلك على غالبية سكان الأرض من الفقراء والعاطلين عن العمل والمهمشين، انطلقت حوارات مفتوحة على المستوى الدولي في أكثر من إطار لإقرار خطة عمل لما بعد العام 2015. وبالفعل فقد انطلق هذا النقاش منذ اندلاع الأزمات العالمية أواخر العام 2007 متناولاً أسبابها وسبل معالجتها. فانعكاسات الأزمة التي اندلعت في الولايات المتحدة وانتقلت إلى أوروبا، تأثرت بها كل البلدان لاسيما في دول الجنوب لما نتج منها من الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة والسلع الغذائية ونتيجة تغيّر المناخ ذي الانعكاسات الهامة على التنوع البيولوجي، والانحباس الحراري، وارتفاع حرارة الكرة الارضية.
وفي ظل هذه الظروف، انطلق الربيع العربي مؤشراً ببداية حقبة جديدة سوف تشهدها المنطقة تؤدي الى تحولات كبرى، ولكنها بعد مرور ثلاث سنوات، لم تستقر على اتجاه محدد بعد.
لقد أشارت الازمة العالمية والثورات العربية التي تلتها إلى الخلل البنيوي في طبيعة المنظومة العالمية، التي تقوم على الاقتصاد "النيو الليبرالي" الذي يعزز حرية انتقال الأموال والسلع والأفكار والبشر. ففي نظرة تقييمية سريعة إلى الوراء نرى بأن هذا النظام لم تكتمل عناصره نتيجة اقتصاره على تحفيز انسياب التداول في الأموال والأفكار، في الوقت الذي ظلت فيه حركة السلع والبشر مقيدة نتيجة اعتبارات كثيرة لعل أهمها تمسك الدول الصناعية بسياساتها الزراعية التي خففت من القدرات الانتاجية والتنافسية للدول النامية وساهمت بالمزيد من إفقار الأرياف فيها، كما استمر الحظر على حركة الناس لاسيما على العمالة بأشكالها المختلفة.
تواجه الدول العربية تحديات الانتقال نحو الديمقراطية بعدما ثارت شعوبها بحثاً عن العدالة والكرامة والحرية. ولكي تتحقق مطالب وتطلعات الشعوب العربية يفترض أن لا يقتصر التحول على الجوانب السياسية، أي على تطوير آليات الحكم والتداول السلمي للسلطة وتعزيز آليات المكاشفة والمساءلة والمحاسبة، على أن يتم الاتفاق على عقد اجتماعي جديد بين السلطة والمواطن، يقوم على مبادئ حقوق الإنسان. لا بل يفترض بالتحول أن يطال أيضا الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والنماذج التنموية التي اتبعت في المراحل السابقة. وإذا كانت الأبعاد السياسية للتحول تشكل شبه إجماع لدى غالبية الأطراف المعنية بالعملية السياسية في البلدان العربية، من محليين ودوليين، فإن التغيير الاقتصادي والاجتماعي لازال يشكل نقطة خلاف جوهرية بين هذه الاطراف. ويتفق الجميع على أن طبيعة الخيارات الاقتصادية والسياسات الاجتماعية التي اتبعت خلال العقود الماضية، أدت الى القصور في تحقيق أهداف التنمية، إلا أنهم يختلفون على الأسباب وبالتالي على طرق معالجتها.
تعتقد المؤسسات المالية الدولية بأن الأخطاء التي ارتكبت والتي أدت الى غياب المساواة وتفاقم أزمات الفقر والبطالة والتهميش، تعود الى غياب الشفافية والمساءلة وبالتالي إلى تفشي ظاهرة الفساد على المستويين السياسي والإداري. كما تعيد ذلك الى الخلل في آليات التوزيع أي في النظام الجبائي أو "الضريبي، وشبكة الخدمات الاجتماعية التي تستهدف الفئات الأكثر حاجة. وتقترح "شراكة دوفيل" آليات التمويل عبر المؤسسات المالية الدولية ومن خلال الاندماج في الاقتصاد العالمي، ومن خلال تعزيز آليات الولوج إلى الأسواق وتحفيز الاستثمارات. في المحصلة، تتلخص هذه الأهداف بالحاجة إلى زيادة معدلات النمو، من خلال تطبيق السياسات والتدابير التقليدية التي درجت على تطبيقها خلال العقود الماضية.
ولو تأملنا بهذه الأهداف لوجدنا أن الحديث عن الأخطاء والاختلالات في السياسات السابقة لم ينعكس في التوجهات. فالمطلوب هو اعتماد مقاربة تشمل تطوير الاقتصادات الكلية في الدول العربية باتجاه "الانتقال من الاقتصادات الريعية الى الاقتصادات المنتجة" والتي ترتكز الى القطاعات ذات القيمة المضافة، أي تلك التي تولد فرص عمل وتكون قادرة على المنافسة في الأسواق المحلية والعالمية. يترافق ذلك مع سياسات لإعادة التوزيع تعتبر أن الخدمات الأساسية هي حقوق للمواطنين التزاما بالشرعة والعهود الدولية لحقوق الإنسان التي وقعت وصادقت عليها معظم دول المنطقة وخاصة تلك التي تشهد تحولات. إن المقاربة الحقوقية للتنمية تجعل من الخدمات الاساسية إحدى آليات إعادة توزيع الثروة في المجتمع، وكونها في نفس الوقت حقوق أساسية "لكل" المواطنين. كما ترتكز العدالة الضريبية إلى سياسات ضريبية قادرة على تجنيد الموارد الضرورية لتمويل البرامج والخطط التنموية والخدمات الأساسية وعلى تخفيف الاعتماد على الاستثمارات والمساعدات الخارجية. وتعتبر الضريبة من أشكال المساهمة الفاعلة للمواطنين ما يعطيهم الحق في المشاركة في صنع السياسات العامة وهي بالتالي تعطيهم الحق في مساءلة المسؤولين عن وضع وتنفيذ هذه السياسات.
كما أن الأجور باتت ينظر اليها بوصفها من الموارد التي تساهم في تحفيز الاقتصاد كجزء من آليات إعادة توزيع الثروات من جهة، وتساهم كذلك في تعزيز القدرات الاستهلاكية التي تحفز الدورة الاقتصادية القائمة على الانتاج والاستهلاك من جهة ثانية. ومن المفيد الإشارة إلى أن نسبة العاملين في القطاع الهامشي تزيد عن 50% في بعض الدول، ما يعني أن نصف القوة العاملة فيها لا تتلقى أجراً عادلاً، ولا تتمتّع بأنظمة الحماية الاجتماعية ما يزيد من هشاشتها.
إن التوجهات التي تطال كل هذه الخيارات الأساسية تتطلب مقاربة جديدة تطال هيكلية الاقتصاد، وكذلك تحتاج إلى تقييم العلاقات التجارية لاسيما في مجال الاستثمارات الأجنبية والمشتريات العمومية والخدمات ونقل التكنولوجيا بما يساعد في تطوير الانتاجية. فالمفاوضات التجارية الثنائية والمتعددة الأطراف تهدف إلى تحفيز الاستثمار الأجنبي من خلال "خلق البيئة الملائمة". والبيئة الملائمة تعني إزالة العوائق القانونية والتشريعية واعتماد أطر تشريعية تحمي حقوقها وخفض الرسوم الضريبية لتحفيزها. وغالباً ما ترتكز البيئة الملائمة للاستثمارات على المرونة في سوق العمل، أي على حساب حقوق ومصالح الموظفين والأجراء والعمال. وذلك يساهم في تقليص الضمانات الاجتماعية وبالتالي إلى المزيد من التهميش والإفقار.
تحتاج المنطقة إلى تعزيز دور الدولة التنموية القادرة على التشريع والتنظيم والإشراف على الآليات الاقتصادية والتجارية والمالية وعلى رسم وتطبيق السياسات الاجتماعية والتنموية وعلى حماية حقوق مواطنيها. كما تتطلب التحديات الراهنة معالجات جذرية ترتكز إلى مقاربات تنموية وسياسات اقتصادية واجتماعية جديدة تعالج الاختلالات التي شهدتها خلال العقود الماضية.
تهيمن على دافوس هذه السنة هواجس تعزيز النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل في الدول الصناعية، للخروج من الازمة العالمية وتعزيز الانتاج، وتوفير أسواق جديدة للشركات متعددة الجنسيات. كل ذلك يتطلب فرصاً جديدة للاستثمارات، وسياسات وتدابير تحفيزية تطال الاقتصاد الكلي والهيكلية المالية في الدول النامية. فهل سيتمكن صناع القرار من إيجاد الحلول والسياسات التي لا تتعارض مع احتياجات الدول النامية التي ذكرناها أعلاه، لاسيما الدول العربية التي تواجه تحديات خطيرة، وتلبي في الوقت نفسه احتياجات الشركات الكبرى بما يساعد الدول الصناعية على الخروج من أزمتها الراهنة؟ سؤال يطرح على المشاركين في المنتدى الاقتصادي العالمي على أمل يأتي الرد عليه إيجابياً .
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه، زياد عبد الصمد، ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر CNN