دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- تعتبر مسألة الندرة Scarcity من بين أهم القضايا التي ناقشها الاقتصاد المعاصر، باعتبار أنها تشكل القاعدة الأساسية لما يعرف بـ"الأزمة الاقتصادية" التي تواجه البشر على المستوى الشخصي والدول على حد سواء.
وتتلخص المسألة في أن حاجات البشر غير محدودة، في حين أن مواردهم من أموال ومواد أولية هي دائما محدودة، وبالتالي فإن القادر على الموازنة بين حاجاته والموارد المتوفرة لديه يكون قد قدم الحل الأفضل للمشكلة وهو ما تحاول النظريات الاقتصادية فعله.
وبالطبع، فإن مسألة الندرة تساهم كثيرا في قانون العرض والطلب، فندرة سلعة معينة مع وجود حاجة كبيرة لها يرفع من قيمتها، ويمكن للآية أن تنعكس، فيؤدي الطلب المرتفع على سلعة معينة إلى ندرتها وارتفاع ثمنها، ما يضطر البشر إلى اللجوء لقاعدة اقتصادية أخرى هي "الاختيار" وتقوم على تحديد الأولويات والاستغناء عن سلعة معينة أو إيجاد بدائل أرخص لها أو الاكتفاء بقدر معين منها رغم أن ذلك القدر قد يكون أدنى من الحاجة الحقيقية.
ويرى الباحث رفيق يونس المصري أن مسألة الندرة قد طرحت على يد الفقهاء في العصور الإسلامية المختلفة، نتيجة ملاحظاتهم لما حولهم من ظواهر اقتصادية فقد تناول الإمام العز ابن عبدالسلام القضية على مستوى توزيع الطعام بن أفراد العائلة فيقول إنه لو كان لدى الأب رغيف واحد يريد توزيعه بالعدل بين ولديه لجاز له منح أحدهما الثلث والباقي للثاني بحال كان الثاني بحاجة إلى كمية أكبر من الطعام لسد جوعه بينما يمكن للأول الاكتفاء بالثلث.
ويلفت الفقيه أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، المتوفى سنة 1509 ميلادية، بكتابه "المعيار المعرب" إلى هذه القاعدة عند دراسة كيفية توزيع أموال الوقف فيقول إنه "إذا ضاق ريع الوقف عن مصارفه قدم الضروري من العمارة والنفقة واستبعد غير الضروري" وتنطبق هذه القاعدة على توزيع الغنائم أيضا، وكذلك المواريث.
ولكن قضية "الندرة" تقود إلى بعد جديد يتعلق بنظرة الشريعة الإسلامية إلى المشكلة الاقتصادية برمتها، إذ يرى باحثون أن الإسلام يعتبر المشكلة متعلقة بسوء توزيع الموارد أكثر من ندرتها، ويقول شفيق شاكر ومحمد عبدالقادر وبكر الريحان في بحث مشترك مقدم بالأردن حول "استراتيجيات المصارف الإسلامية" إن الآية القرآنية "وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ" تدل على وجود توازن بين الموارد المتوفرة والحاجات الموجودة.
ويشير الباحثون الثلاثة إلى أن الآية لا تدل على وجود وفير للموارد، بل وجود متوازن، بدليل الآية الثانية التي جاء فيها: "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ * إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ" ما يدل أيضا على عدم الوفرة الفائضة عن الحاجة في الموارد.
ويضيفون قائلين: "إذن فما هي المشكلة الإقتصادية؟ المشكلة الحقيقية من وجهة نظر الإسلام تتمثل فـي انحراف سلوك الإنسان وعدم انسجام حركته الإرادية مع الحركة الكلية المتوازنة في الكون بكائناته وظواهره. َّ أي أن الندرة التي يواجهها الإنسان ليس سَببها الشح في الموارد الطبيعية، وإنما سَببُها انحراف سلوك الإنسان."
ويناقش العالم العراقي المتخصص في الاقتصاد الإسلامي، عبدالجبار السبهاني، قضية توزيع الموارد في الإسلام بالقول إن هناك العديد من سبل انتقال الثروات التي سمحت بها الشريعة، وعلى رأسها الهبة والإرث، وكذلك الأرض، إلى جانب الآلية الأهم، وهي الزكاة التي تعيد توزيع الدخول وبعض الثروات حولياً (كل عام) على أساس الحاجة.
ويضيف السبهاني في بحث له قائلا: "الزكاة بهذا المعنى هي عملية إعادة توزيع موسعة تستند إلى الحاجة" مشيرا إلى أن ذلك محدد في القرآن بآية "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ" وما قاله النبي لأحد الصحابة حين أرسله إلى قوم في اليمن إذ قال له: "فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فتردّ على فقرائهم."