كاتب هذا المقال هو عمرو عادلي، الخبير والباحث في الاقتصاد السياسي، وما ورد فيه يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN
(CNN)-- يرى كثير من المتابعين والباحثين الاقتصاديين، أن التوسع غير المسبوق في عدد وحجم المشروعات الاقتصادية، التي تنفذها الجهات التابعة للقوات المسلحة، ستكون له آثار سلبية على المدى البعيد على مستقبل القطاع الخاص، وذلك لعدم قدرة شركات القطاع الخاص على المنافسة مع تمتع القوات المسلحة وما يتبعها من هيئات وشركات بالعديد من المزايا، التي تتعلق بطبيعة القوات المسلحة كمؤسسة من أهم مؤسسات الدولة، بما يجعل لها صلاحيات موسعة، ويضع تحت أيديها موارد مالية وبشرية وإدارية لا يمكن أن تتوفر لشركة خاصة.
وقد حدا هذا بالبعض إلى اعتبار أن الدور التنموي للقوات المسلحة في أعقاب ٣٠ يونيو هو بمثابة عودة لنمط ما من تحكم الدولة في الاقتصاد بتصدي إحدى مؤسساتها، وهو الجيش، لدور مباشر في إنتاج وتوزيع السلع والخدمات، وهو ما يمكن اعتباره لدى هؤلاء بمثابة ردة عن إجراءات التحرير الاقتصادي التي سبق اتخاذها في عهد حسني مبارك.
يرى هذا المقال أن هناك الكثير من المبالغات فيما يتعلق بدور القوات المسلحة الاقتصادي في المرحلة الأخيرة، وما قد ينجم عن اتساعه من أثر على مستقبل القطاع الخاص. فعلى الرغم من أن دور الجيش الاقتصادي قد أصبح أكثر مركزية في الخطط الاقتصادية للدولة، خاصة تلك الهادفة لزيادة التشغيل ورفع معدلات النمو، إلا أن هذا التوسع لا يمثل تغييرا كيفيا أو كليا في علاقة الجيش بالاقتصاد. كما أن هذا الدور الواسع سيكون في غالب الحال مؤقتا بالظرف الحالي، وأولويات الخروج من الركود. ويضاف إلى هذا وذاك أن دور الجيش الاقتصادي الآخذ في التوسع لن يؤثر على كافة أنشطة القطاع الخاص بنفس الدرجة، ولن يؤثر على الشركات الصغيرة والمتوسطة بنفس طريقة التأثير على الشركات الكبرى. ولنتناول كل نقطة من هذه النقاط ببعض التفصيل.
لا يمكن فصل التوسع الكبير في أنشطة القوات المسلحة الاقتصادية عن الظرفين الاقتصادي والسياسي في مصر بعد ٣٠ يونيو، والحاجة الماسة لاستعادة النمو الاقتصادي ورفع معدلات التشغيل والاستثمار بعد سنوات من الركود والاضطراب وهروب الاستثمارات المحلية والأجنبية، وذلك لأن شرعية وشعبية السلطة الجديدة التي ترتبت على تنفيذ بنود خارطة الطريق مرتهنة ارتهانا مباشراً بالقدرة على تحقيق التعافي الاقتصادي. وقد جرى التعويل في هذا على إطلاق حزم تحفيزية من الدولة أو هيأتها بتمويل من الحلفاء الخليجيين أو بتمويل ذاتي، ويأتي هذا في وقت قد عمد فيه أصحاب رأس المال الكبير الوطني كما الأجنبي إلى تجميد أنشطتهم وتحويل رؤوس أموالهم للخارج منذ يناير ٢٠١١.
ومع استمرار غياب اليقين حول مستقبل السياسات العامة فإن القطاع الخاص الكبير لم يظهر استجابة كبيرة لخطط التحفيز الأولى التي كانت قد أطلقتها حكومة الببلاوي من قبل، ومن هنا كان التعويل على الدولة بمؤسساتها، وخاصة القوات المسلحة التي تصدرت المشهد السياسي من بعد عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، للإقدام على الدفعة الأولى لاستعادة النمو والثقة، ومن ثم تمهيد الطريق أمام تعاف اقتصادي أكثر شمولا. وينبغي هنا الأخذ في الاعتبار أنه في هذه الأجواء المضطربة سياسيا فإن القوات المسلحة هي الشريك الأكثر أمانا لأصحاب رؤوس الأموال الخليجية التي تبحث عن فرص للاستثمار من ناحية، وتقديم دعم فعلي للانتقال السياسي الجديد في مصر من ناحية أخرى.
وينقلنا هذا إلى تحول القوات المسلحة لأهم متلق للتدفقات المزمعة من الخليج، خاصة مع ظهور الشراكة في عدد من المشروعات الكبرى، كمشروع المليون وحدة سكنية، الذي من المفترض أن يتم تنفيذه بالتعاون بين الهيئة الهندسية وشركة آرابتك الإماراتية، وهو ما حدا بالبعض إلى تصور أن القوات المسلحة ستحجب القطاع الخاص مستقبلا عن تلقي رؤوس الأموال الأجنبية. وهو أمر لا يمكن حمله على نحو جدي لأنه إذا تعافى الاقتصاد المصري، واستعاد مستويات تدفق الاستثمارات الأجنبية السابق على الثورة فإنه من غير الممكن أن يتم هذا من خلال مؤسسة من مؤسسات الدولة. وهو ما يجعل دور القوات المسلحة الحالي مؤقتا ومرهونا بالشراكة السياسية والاقتصادية مع الإمارات والمملكة العربية السعودية ولا يمكن تعميم هذا النمط على العلاقة في المستقبل.
ويضاف لما سبق أن القوات المسلحة بهيئاتها وشركاتها تلعب دورا اقتصاديا مباشرا منذ بدء التحول الاقتصادي في مصر في الثمانينيات، وأن هذا الدور قد تعايش مع توسع القطاع الخاص بشتى أطيافه من ناحية، ومع ظهور رأسمالية مصرية كبيرة من ناحية أخرى في العقدين الأخيرين، ويمكن القول أنه ثمة تقسيم عمل لم يتم تجاوزه حتى الآن، وهو تركز أنشطة الجيش الاقتصادية في قطاع البنية الأساسية كالطرق والكباري والأنفاق، بينما لا نلحظ له وجودا يذكر في قطاعات أخرى هامة ونشطة مثل الصناعات الثقيلة كالأسمنت والحديد والصلب والألومنيوم، أو في قطاعات خدمية كالسياحة والاتصالات والمواصلات، وحتى اليوم فإن جل التوسع في نشاط الجيش الاقتصادي قد انحصر في القطاعات التقليدية لنشاطه اللهم إلا في حالة بعض المشروعات السكنية التي تعد استثناءا حتى اليوم.
وبالطبع فإن استهداف مشروعات البنية الأساسية يرمي إلى رفع معدلات التشغيل كونها مشروعات تطلب عمالة كثيفة من ناحية، وتقوم في أغلبها على إسناد العمل بالباطن لشركات صغيرة ومتوسطة من ناحية أخرى، وهو ما ينقلنا للنقطة الختامية في هذا المقال وهي أن توسع دور القوات المسلحة الأخير لن يؤثر على جميع أحجام القطاع الخاص بشكل متساو، بل سيكون في الأغلب على حساب الشريحة العليا فحسب من الرأسمالية الكبيرة في مصر في قطاع الإنشاءات بصورة خاصة.
يذكر أن هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه، عمرو عادلي، الخبير والباحث في الاقتصاد السياسي، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الشبكة.