هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
أتابع عن بعد، ولكن باهتمام، دورات انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي المعروف باسم مؤتمر دافوس. أتابعه لأنني مازلت منبهرا بحكمة اختيار قمة في جبال الألب يمكن منها التحكم في خيارات سبعة مليارات نسمة هم سكان هذا العالم. أتابعه لأنني أعتبره إحدى النوافذ المهمة، بل لعله، أهم النوافذ، التي يمكن أن نطل منها فنرى، خلال فترة لا تتجاوز أياما خمسة، " توزيع القوة العالمية" على حقيقته، ونرى أنفسنا أيضا على حقيقتنا.
***
لم يختلف الشكل هذه الدورة عن دورات سابقة. مازال يدعى إلى المؤتمر السياسيون والأغنياء جدا والأذكياء جدا. السياسيون نعرفهم. والأغنياء جدا أيضا نعرفهم بأسمائهم فهؤلاء ليسوا كثر. أما الأذكياء جدا فهؤلاء هم عباقرة التكنولوجيا الحديثة، هذه التكنولوجيا المتجددة دوما، والمتدفقة بسرعة لم يتصورها أحد من قبل. لا السياسيون انتبهوا لها ولا الأغنياء جدا استعدوا لها.
***
الجو العام المحيط بهذه الدورة والمنبئ بحال العالم ومستقبله يعكس قلقا وخوفا من الإرهاب. فالأمن المتطور والمرعب غالب ومسيطر ومزعج. الجو العام يعكس أيضا زيادة في عدد الأغنياء جدا والسياسيين حيث بلغ عدد الطائرات الخاصة الراقدة في أحضان الجليد في المطارات حول المؤتمر في انتظار أصحابها أكثر من 1700 طائرة. عرفنا أيضا أن الأغنياء جدا ازدادوا غنى . عرفنا من الإعلان الصادر عن إدارة المنتدى بأن قيمة الاشتراك في "العضوية الاستراتيجية " للمنتدى التي هي أعلى درجات العضوية، ارتفعت لتصل إلى 600.000 فرنك سويسري، أي ما يعادل تقريبا ثلاث أرباع مليون دولار، بما يعني أيضا زيادة في طلب الأغنياء جدا على عضوية المنتدى وحضور مؤتمراته. وبما يعنى كذلك أنه بدون رجال المال والأعمال الأغنياء جدا لا إمكانية ولا قيمة لانعقاد هذا المؤتمر، أو لاستمرار هذا المنتدى.
هذا لا يعني أن السياسيين والعباقرة غير مهمين. كلهم مطلوبون. السياسيون لأنهم الأذرع الفاعلة للأغنياء جدا، هم الطلائع التي جرى ويجرى تأهيلها أيديولوجيا من خلال مشاركتهم في المؤتمر السنوي وعبر رسائل المنتدى ونصائحه ومشوراته المتواصلة والطوعية. هم أيضا الطرف الثاني في معظم الصفقات الكبرى التي يحرص الأغنياء جدا على عقدها خلال المؤتمر. الأذكياء جدا مطلوبون لأنهم صناع المستقبل وحاملوا مفاتيح أبوابه. وبالمستقبل أعني السنوات العشر القادمة وربما السنوات العشر التالية، على الأكثر. في المؤتمر أيضا شهود ومتفرجون. بعض هؤلاء مرتبط بمؤسسات صحفية عملاقة تريد أن تواكب وتراقب وتستفيد وتتلمس النذر أو البشائر قبل وقوعها. كل هؤلاء راحوا إلى دافوس. راحوا إلى السوق السنوية التي يؤكد فيها الأغنياء جدا هيمنتهم ويطمئنوا على حال الاقتصاد العالمي الذي يديرونه. ويتسول فيها السياسيون استثمارات وصفقات وقروض ومنح تساعدهم أمام شعوبهم في تبرير اعتناقهم عقيدة هذا المؤتمر، والعباقرة موجودون هناك يتسوقون منحة أو تمويل أو تشجيع يشحذون به مواهبهم، وربما بدا أن بعضهم بدأ يفكر في أنه لم يأخذ حقه بالعدل والإنصاف ويستعد للمطالبة بدور أهم في لعبة القوة الدولية، دور يتناسب وقوته الفعلية.
****
توقعت أن يهتم المؤتمر هذا العام بقضايا تفصيلية عديدة على غير عادته، مثل قضية النمو الصيني المتسارع والمتاعب الروسية المتفاقمة وحروب الإرهاب الدائرة حول أوروبا وفي قلبها. ولم يفعل. وجدته مهتما بقضيتين رئيستين فرضتا نفسيهما عليه وربما على العالم بأسره لما تمثلانه من تهديد مباشر لعقيدة المؤتمر، أي للرأسمالية.
كلنا مندهشون للسرعة التي تتسم بها معدلات التقدم التكنولوجي في معظم قطاعات الإنتاج والخدمات. أظن شخصيا أن التقدم الذي وقع خلال العقد الأخير وحده أحدث تحولا جذريا في مسيرة الاقتصاد العالمي سوف تستمر آثاره في التفاعل بقية القرن الحادي والعشرين. أظن أيضا أن هذا التقدم وما أفرزه على أرض الواقع من اختراعات وأجهزة وتحولات تكنولوجية كان سببا مباشرا في زيادة معدلات البطالة. ومع ذلك فنحن لم نشهد بعد الآثار الكاملة لما وقع من تقدم خلال السنوات القليلة المقبلة بما يعني أننا يجب أن نتوقع زيادة في معدلات البطالة وليس انخفاضا فيها، هذا الانخفاض الذى يأمل فيه اقتصاديون ورجال أعمال يستندون إلى تجارب تاريخية سابقة خلال الثورتين الزراعية والصناعية حين نتج عن الاختراعات والتقدم العلمي زيادة في استخدام العمال.
الجديد في هذا الموضوع، هو استطلاع الرأي الذي أجراه باحثان مرموقان على عينة من الأغنياء جدا في المؤتمر.. تقول النتائج الأولية للبحث إن هؤلاء الأغنياء جدا يعتقدون أن العالم سوف يشهد بطالة أشد بسبب التقدم المتسارع في التكنولوجيا.
سمعت حوارا من حوارات المؤتمر، ولم أكن قد سمعت منذ زمن غير بعيد باستثناء عهد ثورات الربيع عن عودة إلى نظرية التدمير الخلاق. هذا النوع من التدمير انتقلت البشرية بفضله من الإقطاع إلى عصر الزراعة ومن عصر الزراعة إلى عصر الصناعة، ومن عصر الصناعة إلى عصر الثورة التكنولوجية. أساس النظرية هو أنه لابد من تدمير القائم وإفساح الطريق أمام كل جديد، وبخاصة أمام الاختراعات والابتكارات. نعم، يقول الأغنياء جدا، سوف نستخدم الإنسان الآلي، وكائنات آلية أخرى كثيرة. دعونا نعلن على الملأ أن العالم على أبواب مرحلة تزداد فيها البطالة إلى حد إختفاء تعديد الوظائف وربما مهن معينة، مع استثناء ثلاث وظائف بالتحديد، هي وظيفة "تمشية" الكلاب وما شابهها، ووظيفة تخطيط البرامج الكمبيوترية، ووظيفة إدارة المال والأعمال. أما ما هو غير ذلك من وظائف فلنكن واضحين وصريحين، فوظائف غير حيوية ونستطيع الاستغناء عنها. من هذه الوظائف وظائف يؤديها حاليا السياسيون "ومن يمشي مشيهم" ، ووظائف يؤديها عمال غير مهرة وأساتذة مدارس وجامعات، وغيرها من الوظائف التي يمكن بسهولة ونفقات بسيطة استبدال من يؤديها ببرامج كمبيوتر وعقول إلكترونية.
***
القضية الثانية التي قرر الأغنياء الجدد في هذا المؤتمر أنها تجاوزت الحدود ووصلت إلى مدى خطير، هي قضية اللامساواة. لا شك أن العام الفائت كان بامتياز عام اللامساواة بقياس الاهتمام عالي المستوي من جانب مسئولين كبار واقتصاديين وصناع رأي، وأخيرا من جانب بابا الفاتيكان الذي فاجأ مؤتمر دافوس بدعوة صريحة منه للاهتمام بالموضوع.
اللافت للنظر، هو أنه كما وقع إجماع بين أغنياء دافوس على أهمية عدم الإبطاء في عمليات التحول التكنولوجي وتشجيع الابتكار والاستمرار في خطط التدمير الخلاق، كان هناك أيضا إجماع على رفض كل الأفكار المنادية بإعادة توزيع الثروة.
جاءت الدعوة لإعادة توزيع الثروة في كثير من الكتابات والخطابات السياسية خلال العام المنصرم، مجددة الأمل في أن يكون في إعادة التوزيع تهدئة لخواطر الطبقات المحرومة والتفافا حول الانتفاضات الاجتماعية والثورات الشعبية التي صارت تهدد الاستقرار في أنحاء شتى من العالم. جاء التقرير الذي أعدته منظمة أوكسفام وقدمته لمؤتمر دافوس يؤكد مرة أخيرة على أن الإبطاء في تنفيذ برامج لإعادة توزيع الثروة قد يؤدي إلى أخطار جمة، منها الزيادة في الفجوة المتفاقمة، ويهدد بتفاقم ثورات الغضب والتوتر الاجتماعي.
***
ناقش المؤتمر في دورته السابقة قضية اللامساواة معتبرا إياها مصدرا ثانويا للقلق. هذه المرة ناقشها معترفا بأنها المصدر الأول لقلقه، وليعترف أيضا بأنه لا توجد حلول سحرية أو جذرية. كل الحلول متواضعة للغاية، وهي التعليم الأفضل والمشاركة الجماهيرية الأوسع في رأس المال وإعادة تأهيل العمال وتحسين النظام الضريبي.
اتضح أيضا أن غالبية أغنى الأغنياء جدا لا يعترضون على العلاج الذي يطرحه معظم المسئولين الحكوميين، وهو رفع الحد الأدنى للأجور. لا يعترضون لأنهم يعرفون أن الزيادة في الحد الأدنى للأجور لا تكلفهم في حقيقة الأمر الكثير كما يظن البعض.
***
لن أحاول هنا صياغة موقف تقييمي لدور مؤتمر دافوس في مجمل حياتنا على سطح هذا الكوكب. يكفي في هذه المرحلة أن نقول إنه فشل في التنبؤ بأخطر التطورات العالمية خلال العقد الأخير، فشل في التنبؤ بأزمة المال والأعمال في عام 2007 ، وفشل في التنبؤ بثورات الربيع العربي. وها هو يفشل في إنقاذ الرأسمالية من نفسها رغم أن الرأسمالية عقيدته وإنقاذها سبب وجوده.