مقال لمحمد قاسم العلي، الرئيس التنفيذي لـ"الصكوك الوطنية"، وهي شركة استثمارية رائدة مقرها في الإمارات تقدم منتجات وخدمات مالية متوافقة مع الشريعة الإسلامية لتنمية الثروة والادخارات. المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر CNN.
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- بعض الظواهر في السلوك البشري تستوجب منا وقفة تأمل طويلة. ولعل أطول هذه الوقفات يجب أن تكون من نصيب النتائج المدمرة للأزمات الاقتصادية، حيث يتم التعاطي معها في بداياتها بمنطق الخوف والهلع ومن ثم لا تلبث أن تتحول الى أمر عادي نفتش تلقائيا على سبل التعايش معه بدون استخلاص للعبر أو بذل أي مجهود لتغيير السلوك الذي أدى الى نشوئها.
هذه الأزمات ليست جديدة على المنظومة الاقتصادية، وبعضها مستمر منذ عقود طويلة، فهي تعيد إنتاج نفسها على شكل تداعيات مختلفة من وقت لآخر مثل انهيار أسواق الأسهم وحالات الركود الاقتصادي، وتراجع معدلات النمو والبطالة الى غير ذلك.
في الماضي القريب، كان العمل والانتاج هما الطريق الوحيد لتحقيق الربح ومقياس قيمة الفرد ومكانته الاجتماعية التي يجب أن تتحدد بمقدار مساهمته في عملية إنتاج السلع والخدمات بشقيها المادي والمعنوي وليس بمستوى استهلاكه لهذه السلع كما هو حاصل اليوم.
إن الحفاظ على توازن منطقي بين ما ينتجه الفرد وما يمنحه من عمل في سبيل الحصول على ما يحتاجه، ليس مجرد ترف فكري أو نظري بل هو حماية لتوازن الطبيعة والثقافة والقيم التي تحتاجها منظومة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. فمن يأكل الخبز عليه أن يصنع الورق أو يحيك الملابس أو يعمل في زراعة الأرض .. الخ من سبل تبادل الحاجات وتداولها بين البشر.
هذه المعادلة لم تعد كما كانت، وتغيرت بفعل تطور الثقافة التي تمجد الاستهلاك من ناحية، وترسم الأوهام حول طرق الربح والثراء السريع بدون عمل أو جهد من ناحية ثانية. ولعل أكثر تجليات هذه الحالة ما تشهده أسواق المال من تداولات محمومة أقرب إلى المغامرات المالية الحقت الضرر الكبير بالثروات الشخصية والعامة وبمجمل سير العملية الاقتصادية.
كان من المفروض أن تلعب أسواق المال دوراَ حيوياَ هاماَ في عمليات التوازن الاقتصادي والاستقرار المالي والنقدي، وأن تعمل على تعزيز الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج من خلال الملكية الجماعية لأسهم الشركات والمؤسسات المالية بما فيها البنوك، وأن توفر المال اللازم لتمويل المشاريع الاستثمارية في القطاعين العام والخاص، لكنها تحولت الى ساحة من التنافس الشرس لتحقيق الربح بأدوات عالية المخاطر، نسبة الخسارة فيها تفوق أضعاف نسبة الربح، حيث يلجأ بعض المضاربين الى إحداث تشوهات معينة في أسعار الأصول المالية، فيقومون مثلاَ بعمليات بيع مكثفة لسهم معين لتخفيض سعره بغرض إعادة شرائه مرة أخرى بسعر منخفض من أجل تغطية مراكزهم المالية وتحقيق أرباح سريعة، وهكذا تعود الأسهم لتتركز في أيدي أقلية يملكون المال ويحتملون المضاربة اكثر من غيرهم.
وأدت المضاربات المحمومة في أسواق الأسهم بمختلف أنواعها إلى خلق رأس مال صوري لا تقابله أصول عينية. وهذا بدوره ادى الى التضخم النقدي وبالتالي ارتفاع الأسعار الذي يتخذ وسيلة لامتصاص القيمة الحقيقية للمدخرات البسيطة لدى عامة الناس وزيادة تكاليف المعيشة.
لا أريد في هذه المقالة السريعة استعراض الأزمة السابقة ومسبباتها ونتائجها، فلقد عايشناها مع الجميع وعانينا من نتائجها، لكني أود التطرق الى العبر التي يجب استخلاصها مما حدث للإسهام في إرساء قواعد جديدة لعملية التداول والاستثمار السليم التي تحتاجهما عملية التنمية.
ولا أرى فائدة من الاستمرار في لوم الناس وتحميلهم مسؤولية ما حصل، فلا أحد يرغب بالخسارة أو إلحاق الضرر باقتصاد بلده، وبما أن السلوك الجماعي للناس هو انعكاس للثقافة السائدة بسلبياتها وايجابياتها، لذا برأيي يجب العمل على فهم أعمق لأسباب هذه السلوكيات ولماذا استوطنت في البنية الاجتماعية والثقافية.
الجميع يسعى للربح وهذا طبيعي، فتحقيق الربح هو الهدف النهائي لأي نشاط اقتصادي، لكنه الربح المشروع الذي لا يضر الآخرين ويحقق التكامل بالمنفعة المستدامة ويعممها ولا يترك خلفه الضحايا في الجانب الآخر من المعادلة.
الجميع يريدون أرباحاً سريعة، لا أحد اليوم يريد أن ينتظر، وكأننا فهمنا مقولة عصر السرعة بالطريقة الخطأ، ألم يعلموننا منذ الصغر أن في السرعة الندامة وفي التأني السلامة؟ لقد تركت الأزمة المالية الأخيرة من المتضررين الذين خسروا ثرواتهم ما يكفي كي نغير هذا المفهوم مرة واحدة وللأبد، لم يأت اختيار كلمة التنمية كمفهوم يطلق على الاقتصاد القوي الصاعد من باب الفراغ، فهذه العملية تشبه تماماً نمو الزرع وإثمار الشجر الذي يحتاج الى مراقبة وعناية وتوفير كل المقومات لنجاحه من ماء وسماد ومكافحة للأعشاب الضارة ولا تنفع معه أي عملية استعجال.
الجميع يخافون من الغد ويخافون من الحاجة والفقر، ولكن المراهنات على الأسهم بدون الالتزام بالنظم والقوانين التي سنتها الدولة وأقرتها الهيئات المالية، لن يحقق هذا الامن أبداً، بل سيضع مستقبل الجميع في مهب الرياح والأزمات. علينا ان نفرق بين الاستثمار بعيد المدى في امتلاك الأسهم وبين المراهنة التي تتصيد الفرص لعقد صفقات بيع وشراء كميات هائلة من الأسهم الأمر الذي يؤدي بالسهم أن يتحول الى فقاعة قد تنفجر في أي لحظة كما حصل في العام 2008.
ما ينقصنا في منظومة ثقافتنا هو وعي الحاجة والضرورة والابتعاد عن الجري خلف الأوهام. لا يوجد ربح سريع الا ويستدعي خسارة سريعة، كما لايوجد ربح كبير بضربة واحدة الا ويستدعي خسارة كبيرة وبضربة واحدة أيضاً.
صحيح أن هناك عدة طرق للحصول على ما نريد من أشياء ومن بينها الثروة، ولكن هناك طريقة واحدة لتحقيق الأمن والاستقرار بواسطة هذه الثروة وهي العمل. العمل عبادة وثقافة وعطاء، العمل يعني انتماء الفرد للمجموع وللوطن والمشاركة في التنمية والازدهار، والمال الذي يأتي بهذه الوسيلة السامية، سيحدد سبل الحفاظ عليه بطرق سامية أيضاً، وهي الاستثمار طويل المدى بادوات قليلة المخاطر، والادخار من خلال تخطيط مالي متزن يراعي العلاقة ما بين الحاجات التي تفرضها اللحظة وتلك التي يحتاجها المستقبل. بهذا النهج فقط تحقق الشعوب استقرارها وتطورها وسعادتها المستدامة.