هذا المقال بقلم ابراهيم عوض، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
خرجت علينا صحيفتنا الغرّاء، الشروق، بخبر مفاده أن مسئولا كبيرا صرّح بأن مشروعا لبناء "أعلى برج في مصر" سيطرح على مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي الذي سينعقد في شهر مارس. حسبما نشرته الصحيفة، سيرتفع هذا البرج مائتي مترا عن سطح الأرض وهو سيندرج في إطار مشروع إداري ترفيهي ينفذ على مساحة 190 فدانا غرب مدينة الشيخ زايد، أي غرب الجيزة والقاهرة أيضا، في منطقة تتميز بارتفاع مستوى المعيشة، وعلى محور 26 يوليو مباشرة، أي على طريق رئيسي يكفل سهولة اتصال المشروع بالقاهرة. هذا المشروع، كما أعلن عنه، يستحق ملحوظات في جوانب ثلاثة على الأقل تتعلق بفكرة المشروع والمبررات المقدمة لإثبات وجاهته أولا، وبمقاربة التنمية في شقيها العمراني والاقتصادي التي يكشف عنها المشروع ثانيا، وبمفهوم مجمل المشروعات المقدمة إلى المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ ثالثا.
***
في الجانب الأول قيل أن اتصال المشروع بالقاهرة سيكون سهلا لوقوعه على محور 26 يوليو. الاعتذار واجب للقراء من خارج القاهرة لأنه ليس المفترض فيهم معرفة مداخل المدينة ومخارجها، كما أن مؤتمر شرم الشيخ ليس مؤتمرا يخص القاهرة وحدها. أما وقد تقدم كاتب هذه السطور على الأقل بالاعتذار، فالتساؤل واجب. ألا يدرك المسئولون الخطأ الفادح المرتكب عند تعمير مدينة الشيخ زايد ومدينة 6 أكتوبر؟ مئات الآف يسكنون اليوم المجتمعات السكانية في هاتين المدينتين وحولهما وهم يعدمون أي وسيلة للنقل المشترك، فلا خطوط مترو أنشئت ولا "أوتوبيسات" سيِرت والنتيجة أن عشرات الآف من السيارات تسلك محور 26 يوليو المشار إليه فيقضون الساعات في اختناقات مرورية وهم في طريقهم إلى أعمالهم وقضاء مصالحهم ثم في عودتهم إلى منازلهم. وقوع الطريق على محور 26 يوليو منفِر وليس جاذبا لأي مستثمر. ملحوظة ثانية هي أنه بدلا من المباهاة بارتفاع دخول سكان مدينة الشيخ زايد والتلويح بها إغراء، كان الجدير بالمسئولين عن التعمير والإسكان أن يصمموا مشروعات الإسكان لمنخفضي الدخول ومحدوديها الذين يحتاجون إلى من يستثمر في مساكن تفي بطلبهم عليها. ولأنهم أكثر بما لا يقاس من مرتفعي الدخول ولأن طلبهم بالتالي أكبر حجما بكثير من طلب مرتفعي الدخول، فإن المستثمر الجاد ذا الإمكانيات المالية والتقنية المعتبرة سيكون مهتما بطلبهم هم وليس بطلب مرتفعي الدخول. ألم يفكر المسؤولون عن التعمير والإسكان في ذلك، وألم يستشيروا الاقتصاديين؟ أليس المفترض في المؤتمر الاقتصادي أن يكون من أهدافه الأولى رفع مستوى معيشة المحتاجين؟ وألم يكن حريا بالمسئولين عن الإسكان والتعمير، وبدلا من "أعلى برج في مصر" أن يصمموا مشروعا بمد خط للمترو يخدم مدينتي الشيخ زايد وأكتوبر وأن يعرضوه على المستثمرين في مؤتمر شرم الشيخ فيدمجوا المدينتين بذلك في نسق الإنتاج الاقتصادي في مصر؟ ولتحقيق نفس هدف الإدماج هذا، ألم يكن من الأفضل التفكير في الاستثمار في فتح طريق ثان يربط المدينتين بالجيزة والقاهرة؟
ثم إن مشروع "أعلى برج في مصر" يثير تساؤلا بشأن المنطق الذي أدَى إلى تصميمه وإلى الافتخار به. الافتخار بالأبراج وارتفاعها من سمات دبيّ، ولكن هل نحن نريد أن نكون مثل دبيّ، بل هل من المصلحة أن نكون مثلها؟ لدبيّ ظروفها ومواصفاتها الخاصة. ربما كانت دبيّ تفخر الآن بارتفاع "برج خليفة" فيها ولكن الأصل في ارتفاع البنايات فيها هو أن دبيّ صغيرة المساحة وهو ما استدعى تكثيف استخدام هذه المساحة بالتوسع الرأسي عوضا عن الأفقي. بالمناسبة هذا أيضا سرُ نشأة ناطحات السحاب في جزيرة منهاتن بنيويورك، وهي جزيرة صغيرة المساحة، بينما لم تمتد ناطحات السحاب إلى القطاعات الأربعة الأخرى في مدينة نيويورك. الشيء ذاته حدث في الإمارات العربية المتحدة. البنايات شاهقة الارتفاع لم تنتقل إلى مدينة أبوظبي التي لا تبعد إلا كيلومترات عن دبيّ، بل احتفظت أبوظبي بنسق عمراني هادىء تغلب فيه المساحات الخضراء والأبنية محدودة الارتفاع. صحراء شاسعة تمتد خلف مدينتي الشيخ زايد وأكتوبر، أليست الحكمة هي التوسع الأفقي فيها حتى تتسع الرقعة الضيقة التي ينحشر فيها المصريون وتوتر أعصابهم؟ ثم ألا يؤدي التكثيف الرأسي للسكان إلى ارتفاع أسعار الأراضي فيستحيل على محدودي الدخل ومتوسطيه تلبية احتياجاتهم في السكن، وهو ارتفاع في أسعار الأراضي، وبالتالي في أسعار المساكن، يستهلك الادخار لدى أصحاب الدخول المرتفعة أنفسهم، على حساب الاستثمار في أنشطة إنتاجية في الصناعة أو في الخدمات مرتفعة القيمة المضافة؟ هل المراد تكرار ما حدث في أحياء من القاهرة والجيزة والإسكندرية، فأدى إلى تدمير البيئة الحضرية وإلى تشويه النمو وإلى انخفاض معدلاته في منظور طويل الأجل؟
***
الملحوظة الأخيرة بشأن المنهج المتبع في التحضير لمؤتمر شرم الشيخ وفي إعداد المشروعات لعرضها على من يحضره من المستثمرين. المراقب يخرج بانطباع هو أن عددا كبيرا من الوزارات حريص على إعداد مشروعات والتقدم بها إلى المؤتمر لمجرد أن يكون جزءا من الحفل. ليس من المهم أن يتقدم عدد كبير من الوزارات بمشروعات إلى المؤتمر، والوزارات في نهاية الأمر مسئولة عن صياغة السياسات وعن تطبيقها وليس عن إعداد المشروعات. أما المشروعات التي تقدم بالفعل فكان لا بدَ أن تندرج في نسق متماسك بحيث لا يحدث تنافس على الموارد المتاحة لدى المشاركين في المؤتمر، وكذلك حتى لا تكون المشروعات منبتة الصلة فيما بينها، فمعروف أن المشروعات ذات الصلات الأمامية والخلفية بغيرها من المشروعات هي الكفيلة بتحقيق النمو المستدام في نشاطها وفي الاقتصاد الوطني عموما. وأخيرا فالرجاء هو أن تكون المشروعات المقدمة متفقة مع الخطة الخمسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة.
بدلا من "اعلى برج في مصر"، فالأمنية هي أن تتقدم وزارة التربية والتعليم في المرة القادمة بمشروع لإصلاح التعليم باعتباره العامل الأول في تحقيق التنمية، فبدون التعليم الراقي لا تنمية اقتصادية ولا اجتماعية ولا سياسية.