هذا المقال بقلم محمد قاسم العلي، الرئيس التنفيذي لشركة الصكوك الوطنية، وهو يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر CNN.
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- تحتل أخبار دراسات إقرار نظام ضريبة القيمة المضافة في مجلس التعاون الخليجي واجهة الصحافة المحلية والإقليمية، وتتباين ردود الأفعال الاستباقية على هذا المشروع بين ناقد ورافض وناصح حول آليات صياغة الضرائب ونسبتها والفئات المستهدفة منها.
من الطبيعي أن نرى هذا التفاعل المتباين من قبل الأفراد والشركات، فهذا هو الحال دوماً عندما نكون على أعتاب مرحلة جديدة تحمل في جعبتها قرارت وسياسات جديدة.
ولكن نحن بحاجة في هذه المرحلة بالذات الى قراءة دقيقة موضوعية ومتعقلة للوقوف على خلفيات هذه السياسات وتبيان أسبابها وانعكاساتها بسلبها وايجابها، ومن ثم السعي نحو الحد من السلبيات وتحويلها الى تحديات تحقق لنا مكاسب حقيقية على المدى البعيد.
بمعنى آخر نحن مدعوون للإجابة على السؤال المتعلق بدورنا كأفراد ومستثمرين ورجال اقتصاد في إنجاح أهداف هذه الخطوة في حال إقرارها.
إن الدافع الأساسي لهذه الخطوة هو باعتقادي، حالة عدم الاستقرار التي تسود الاقتصاد العالمي منذ عام 2008 وتوجه دول مجلس التعاون الخليجي الى مزيد من التحوط من خلال تعزيز قيمة الناتج الوطني من مصدر آخر غير النفط أو المصادر التقليدية الأخرى التي شكلت روافد هذا الناتج خلال العقود الماضية، خاصةً بعد التلاشي التدريجي لمداخيل الجمارك، والتي كانت تشكل مورداً مهماً للاقتصاد الوطني، بعد توقيع العديد من اتفاقيات التجارة الحرة بين دول مجلس التعاون الخليجي وعدد من دول العالم.
ومن المعروف طبعاً أن ضريبة القيمة المضافة هي ضريبة على الاستهلاك، يدفعها المستهلك عند شراء السلعة أو الخدمة، حيث يتم احتساب نسبة من القيمة المضافة على المواد الأولية للسلعة، أي الفرق بين سعر البيع وتكلفة المنتج. بعض الدول تلتزم بالإعفاء الضريبي على السلع الأساسية وخدمات التعليم والصحة، وتعتبر أن هذا الإعفاء هو دعم وتمكين للمواطنين ذوي الدخل المحدود. وأنا أتوقع ان يتم إعفاء ضريبي مماثل على استهلاك هذه السلع والخدمات في دول مجلس التعاون الخليجي.
أما ضريبة الدخل على الشركات والتي يتم الحديث عنها بالتزامن مع ضريبة القيمة المضافة، فهي نسبة يتم الاتفاق عليها من أصل الربح الصافي للشركة بعد احتساب المصاريف والتكلفة وتدفع للدولة سنوياً.
إن خشية الشارع الخليجي والتي ظهرت مباشرة بعد الإعلان عن نية الحكومات الخليجية إقرار ضريبة القيمة المضافة، هي خشية مبررة لعدة أسباب، فثقافتنا تجاه الدور السيادي للدولة ومؤسساتها ومن ضمنه فرض الضرائب لم تنضج بعد. لا زلنا تحت تأثير المفاهيم المتوارثة عن الضرائب كونها تسطو على مدخراتنا ومداخيلنا بمعزل عن إرادتنا. لم نصل بعد الى مرحلة تتكامل فيها كافة مكونات المجتمع الاقتصادية والعلمية والثقافية في إطار الالتزام بالهم العام الذي تعبر عنه الدول بما تصدره من سياسات وقرارات ومن ضمنها ممارسة حقها في جني الضرائب لتمويل نشاطاتها ومشاريعها التي تعود بنتائجها الايجابية على الجميع.
أما المبرر الآخر لهذه المخاوف، فهو القلق على زخم الاستثمار الأجنبي في دول مجلس التعاون الخليجي الذي يشكل نسبة من الموارد الوطنية والناتج المحلي لكل بلد.
بالنسبة للاستثمار الخارجي وللشركات الأجنبية العاملة في الأسواق الخليجية، نستطيع أن نضع عدة محددات نضمن من خلالها تحويل النظام الضريبي الموعود من عامل يهدد مستقبل الاستثمار والنشاط الاقتصادي الأجنبي الى عامل يعزز هذا الاستثمار ويزيد في تشجيعه، مسترشدين بتجربة هونغ كونغ وسنغافورة حيث لم تتأثر الاستثمارت الإجنبية في أسواقها بالضرائب المفروضة على دخل الشركات لأن كل عوامل الجذب وفرتها الحكومتان.
لتحقيق هذا العامل، على دول مجلس التعاون الخليجي أن تبدأ بحوار شامل وعميق مع ممثلي القطاع الخاص- سواء كان محلياً أو أجنبياً - لوضع الأسس السليمة لنظام ضريبي يحقق الفائدة للجميع في حال تطبيقه، فكما يسهم القطاع الخاص في تنشيط دورة الاقتصاد الوطني، فإن الدولة بالمقابل سعت خلال السنوات الماضية وبكل جهد نحو توفير مناخ مثالي للاستثمار سواء بالتشريعات والقوانين الملائمة التي تخدم مصالح القطاع الخاص، أو من خلال تهيئة بنية تحتية متطورة لتهيئة البيئة المتينة التي تجعل من النشاط الاقتصادي سهلاً ومستقراً.
إن الحوار المقترح مع ممثلي القطاعين العام والخاص، سيجعل من الجميع شركاء بهذا القرار بعد أن يكون قد استوفى شروط تحقيق المصلحة العامة والخاصة في إطار تكامل وانسجام بين شقي هذه المصلحة وليس في إطار التعارض بينهما.
أما بالنسبة لمواطني دول مجلس التعاون الخليجي، نحن هنا بحاجة الى إعادة صياغة ثقافتنا تجاه حقوق الدولة السيادية من ناحية والى مراجعة سلوكياتنا المالية من ناحية ثانية.
الضرائب التي يدفعها المواطن هي استثمار بعيد المدى في الوطن، وعائدات هذا الاستثمار على المواطنين ملموسة وليست بحاجة الى استعراض وتوضيح وهي تتمثل في استدامة الخدمات والاستمرار في الصرف الحكومي على مشاريع البنية التحتية والرفاهية، من مياه وكهرباء وشبكات مواصلات وغيرها، وتعزيز قطاعات الصحة والتعليم.
إن الالتزام الأساسي من قبل الدولة تجاه مواطنيها هو ضمان قدرتها على الاستمرار بدعم هذه القطاعات وعلى توفير دائم للخدمات مهما حصل من متغيرات على تركيبة الاقتصاد العالمي والإقليمي، ومهما تأثرت نسبة مداخيل الدولة من القطاعات التقليدية القديمة، يفرض بالمحصلة النهائية إشراك المواطنين بهذه المهمة من خلال فرض ضرائب عادلة على الاستهلاك.
في مقابل دور الدولة، هناك دور ملزم للأفراد والشركات والمستثمرين عليهم القيام به للتخفيف من حدة تأثير الالتزام الضريبي. على الشركات والمستثمرين مراجعة كافة النفقات التشغيلية الأساسية وغير الأساسية، ومراجعة كافة أبواب الصرف ومن ثم الحد منها أو إعادة جدولتها وفق الأوليات التي تجعل التركيز على جودة المنتج في المقدمة.
نحن كرجال اقتصاد نعرف أن هناك الكثير من المصاريف غير اللازمة والتي لا تصب في مصلحة تحسين المنتج أو الخدمة المقدمة، وأن الحد من هذه المصاريف الثانوية سيوفر مبالغ كبيرة وأكثر من كافية للالتزام الضريبي.
أما بالنسبة للأفراد، فدعونا نعترف بكل جرأة أن المواطنين في مجلس دول التعاون الخليجي، ووفقاً للعديد من الدراسات، لا زالوا يحتلون مراتب متقدمة في قائمة الشعوب الأكثر استهلاكاً وانفاقاً على الكماليات. لنجعل من الاحتمالية المطروحة بإقرار نظام ضريبة القيمة المضافة فرصة لمراجعة سلوكنا الاستهلاكي، وفرصة لتعزيز ثقافة الانتماء والمواطنة من خلال الشراكة الحقيقية بعملية التنمية، هذه الشراكة ليست بتصويب السلوك المالي وحماية الأموال والثروات من النزيف على مذبح السلع الاستهلاكية فقط، بل- ولكي تتحقق بشكلها الأكثر تطوراً- يجب أن تشمل مساهمة الفرد في تعزيز مقدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية المقدمة له، وعلى حماية الاقتصاد الوطني ودعم مسيرته نحو التنمية المستدامة من ناحية أخرى، وهذا هو المعنى الدقيق للاستثمار طويل الأجل في الوطن كمؤسسة لتعزيز قدرتها على تقديم أفضل الخدمات لمواطنيها.