عمرو عبد القوي يكتب: "جيل جديد" من المدن الجديدة في مصر.. حقيقة أم كلام؟

اقتصاد
نشر
9 دقائق قراءة
عمرو عبد القوي يكتب: "جيل جديد" من المدن الجديدة في مصر.. حقيقة أم كلام؟
Credit: -/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم عمرو عبد القوي، أستاذ العمارة بالجامعة الامريكية بالقاهرة، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

أثناء قراءتي لبرنامج الحكومة المقدم للاعتماد من برلمان الشعب، استوقفتني بعض المخططات الكروكية الممثلة للمدن الجديدة الجاري إنشائها كجزء من الركيزة الرابعة للبرنامج والمعنية بالمشروعات القومية الكبرى. المشروع القومي الثاني هو إنشاء جيل جديد من المدن الجديدة. وحيث أن الرسومات والمعلومات المقدمة في البرنامج مقتضبة جدا وتفتقر إلى تفاصيل توضح الرؤى التخطيطية خلف كل مدينة، أو كيف تم تحديد الأولويات التنموية والاستثمارية لها، فلم يتضمن البرنامج إلا بعض الأرقام العامة عن الحجم وبعض المكونات العامة وعدد الوحدات السكنية المزمع إنشائها إلى جانب بعض المشاريع الخدمية والترفيهية بدون الإشارة إلى أحجامها أو استثماراتها، فلن نستطيع مناقشة هذه المقترحات بدرجة كافية من العمق. السؤال الهام في هذا الخصوص هو لماذا تقدم الحكومة برنامج يفتقر للتفاصيل لمجلس الشعب للاعتماد بما سيترتب على ذلك من اعتماد وتخصيص المليارات من الميزانية والقروض، ومن الالتزامات لأجيال لاحقة؟

***

يبدو أن حكومة عام ٢٠١٦ مثلها مثل حكومات ما قبل عام ٢٠١١ مازالت تتعامل مع الشعب وممثليه على أنه يفتقر للوعي الذي يؤهله للتعامل مع المعلومات الكاملة لأي مشروع أو سياسة تقرر انتهاجها، ولذلك فلا داعي لمشاركته في التفاصيل ويكفي ثقته في رئيسه وفي إعلاءه لمصلحة الشعب.

هل معقول أن تكون هذه الثقافة التي نتج عنها ثورتين مازالت هي الغالبة على المنظومة السياسية المصرية، أم أن هناك سبب آخر؟ فمثلا هل يمكن أن يكون السبب الحقيقي يكمن في أن مستوى المعلومات المتوفرة لدى الحكومة وقت الافصاح عن المشاريع والبدء في التنفيذ هي أصلا محدودة لعدم توفير الوقت والامكانيات لإنهاء دراسات متعمقة للمشاريع مجاراة للضغط السياسي الذي يبدي دائما التنفيذ السريع؟ ... ممكن ... وهذا ما قد يفسر ما نواجهه من فشل لكثير من مشاريعنا نكتشف أنه نتيجة ضعف دراسات الجدوى والتخطيط المسبق.

المهم دعونا نرجع لمخططات المدن الجديدة التي بدأنا بها حديثنا. السؤال الذي استثارته عندي هذه المخططات نبع من علاقتها بمسمى المشروع والمعني بإنشاء "جيل جديد" من المدن الجديدة، بافتراض أن هناك أجيال قديمة والتي إذا ما نظرنا لتاريخنا الحضري المعاصر يمكن أن نصنفها كالآتي: فهناك جيل أوائل القرن العشرين مثل مصر الجديدة، ثم جيل ثورة ٥٢ مثل مدينة نصر، تلاه جيل مدن الانفتاح مثل ٦ أكتوبر و١٠ رمضان، ثم هناك جيل مدن الانفتاح الأكبر (أو الهروب) مثل القاهرة الجديدة. وبسبب بزوغ كل واحدة من هذه التوسعات العمرانية بعد وأثناء مرحلة محورية سياسيا واقتصاديا في تاريخ الوطن فأغلبهم حمل في طياته تعبيرا تخطيطيا ومعماريا عن رؤى تتناسق مع فكر وأولويات هذه المرحلة. فهل "الجيل الجديد" المشار إليه في برنامج حكومة عام ٢٠١٦ يمثل رؤية تخطيطة وتنموية جديدة تتفادى أخطاء الماضي وتساعد على تصحيح مسار التنمية العمرانية في مصر؟ البرنامج للأسف لم يتطرق لهذه الأبعاد فهو اكتفى بإخطار ممثلي الشعب بأن القرار قد اتخذ وجاري التنفيذ ... ولهم الرأي الأخير طبعا.

ولكن دعونا نأخذ مثالين للاستدلال عن ما إذا كانت هناك مؤشرات لوجود مثل هذه الرؤية الجديدة. أول هذه المدن هي "العاصمة الإدارية الجديدة" والتي أدرج مخططها باسم "العاصمة القاهرة" (ولا أدري إذا ما كان المعنى مقصود حرفيا!) والمدينة الأخرى هي مدينة "العلمين الجديدة". وحيث أن مقياس الرسم صغير فيصعب استيضاح تفاصيل التصميم، ولكن ما يوجد يكفي لقراءة التوجه التخطيطي العام لكل مدينة. المُلفت للنظر في أول وهلة هو التباين القوي للتوجه التخطيطي للمدينتين. فالعاصمة الإدارية لها تخطيط مشابه جدا للمنتجعات السكنية الراقية التي تصمم حول ملاعب جولف وحدائق وبحيرات، فجميع شوارع المدينة متمايلة لا يوجد بها أية زوايا قائمة، كأنها شوارع وممرات مشاه في حديقة كبيرة لا يوجد بها تسلسل هرمي واضح لأولويات الحركة أو العناصر. ويمكن أن يكون هذا التوجه مقصود لكسر صورة الحكومة البيروقراطية بكل مخرجاتها الرتيبة والمتكررة وليدة فكر الستينات الاشتراكي.

أما تخطيط مدينة العلمين الجديدة في الصفحة التالية من البرنامج فنجده متناقضا تماما مع مدينة القاهرة في غياب أي شارع متمايل فكل شوارعها متعامدة لتخلق تخطيط شبكي مشابه لأغلب المدن "الجديدة" المصرية مثل دمياط الجديدة وبني سويف الجديدة ... إلخ. وهو الفكر الصناعي الرامي لسلاسة التخطيط والحركة المعبر عن الفكر الصناعي للإنتاج المسلسل. ولكنها ليست بالمدينة الصناعية ومفروض أن تكون مدينة سياحية.

ماذا يربط بين هذين التخطيطين بما إنهما ينتميان إلى جيل واحد جديد من المدن الجديدة؟ ما هي الرؤية التخطيطية الجديدة التي يشتركان في تفعيلها لإعادة صياغة المحيط العمراني الذي نقطنه ونعاني من مشاكله المتراكمة من سوء وانعدام التخطيط؟ هل هناك رؤية أم إنهما فقط مثالين لأسلوبين من التخريط ... أقصد التخطيط ... للأراضي بهدف التسويق العقاري والبناء؟ نريد أن نفهم ... بل من حقنا أن نفهم.

***

مما لاشك فيه أن التخطيط والتصميم العمراني يعتبر تجسيد مادي للفكر والرؤى السائدة في العصر، أو بالأحرى وفي حالة المشاريع الكبيرة مثل المدن هي تجسيد لفكر ورؤى صاحب السلطة والقرار. ولهذا فهذه المحاولة لقراءة هذه المشاريع وما تمثله من رؤى هامة جدا لأنها قرارات تغير من الواقع الذي نعيشه والذي ستعيشه أجيال كثيرة من بعدنا. والأهمية تزداد حينما يتعلق الموضوع بقرار إنشاء عاصمة جديدة لواحدة من أقدم وأعرق عواصم العالم وهي القاهرة لما لها من دلالات رمزية لا يمكن إغفالها. مع هذا القرار الجريء لا يمكن للمخطط الهروب من الإجابة على عدة اسئلة هامة ومحورية بخلاف الجوانب المادية والوظيفية مثل.

•          ماهي الإضافة التي يمثلها المكان الجديد لجودة الحياة في المدينة الأكبر؟

•          كيف يرتبط المكان الجديد بالقديم وكيف تتواصل ذاكرة المكان؟

•          كيف يتعامل المكان الجديد مع هوية المكان؟

•          كيف سيؤثر التدخل الجديد على مسار التطور والتغيير في المدينة الأكبر؟

هذا إلى جانب أسئلة أخرى كثيرة هامة لتحديد الرؤية التخطيطية والمستقبلية لمثل هذه المشاريع الفاصلة في التأثير على مسار التطور العمراني للوطن. التاريخ المعاصر والقديم يقدمان لنا أمثلة عديدة لمشاريع مدن وعواصم جديدة مدفوعة بأهداف متنوعة لأصحاب تلك القرارات من رمزية سياسية إلى تعظيم وتخليد لزعيم. فمن الضروري، بل من الواجب كجزء من العملية التخطيطية نفسها فتح حوار شامل لهذه المشاريع المقترحة على خلفية مثيلاتها في الماضي وفي إطار تصور الشعب لمستقبله وللحياة التي ينشدها. وهذا للأسف ما لم يحدث.

فما هي إذاً الأهداف الاستراتيجية والرؤية العمرانية لمدينة العاصمة الادارية كما تخيلتها السلطات خاصة وأنها تتناقض مع "استراتيجية التنمية العمرانية للقاهرة الكبرى" والتي أصدرتها وزارة الإسكان مع الهيئة العامة للتخطيط العمراني عام ٢٠١٢. ما هي الرؤية الدافعة للمشروع لأنها بالتأكيد أكبر وأوسع من "نقل عدد من الوزارات ومجلس الوزراء ومجلس النواب من مدينة القاهرة ... بالإضافة إلى إنشاء قاعة للمؤتمرات ومدينة أولمبية بما يساهم في تخفيف الزحام داخل القاهرة ..."

هذه المدن بما تمثله من قرارات تساهم في تشكيل الواقع الذي سيعيشه ويدفع ثمنه أولادنا وأحفادنا لأجيال عديدة قادمة... وهذا أمر خطير ويهم كل مواطن مهما اختلفت خلفيته الاقتصادية أو الاجتماعية.

نريد أن نفهم تفاصيل هذه القرارات... بل من حقنا أن نفهم