العور يكتب حول قرار إنشاء الهيئة الشرعية العليا للأعمال في دبي: حجر أساس في هيكل الاقتصاد الإسلامي

اقتصاد
نشر
7 دقائق قراءة
تقرير عبد الله محمد العور
العور يكتب حول قرار إنشاء الهيئة الشرعية العليا للأعمال في دبي: حجر أساس في هيكل الاقتصاد الإسلامي
Credit: KARIM SAHIB/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم عبدالله محمد العور، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعكس بالضرورة وجهة رأي شبكة CNN.

منذ إطلاق مبادرة دبي عاصمة الاقتصاد الإسلامي عام 2013، كان الهدف الأساس بناء اقتصاد مهيكل ببنية واضحة وقوية، وبمرجعيات موحدة محلية وإقليمية كمقدمة لمرجعيات عالمية شاملة، وبثقافة مغايرة لما هو سائد، تجمع حولها كافة الفئات الاجتماعية على قاعدة القناعة بأن هذا الشكل من الاقتصاد خلاص مستدام من مشكلات العصر التي أفرزتها ممارسات لم تنسق نشاطها وفق ضوابط تنموية اقتصادية واجتماعية، ولم تحافظ على الإرث البشري الذي بنته السواعد والعقول على امتداد سنوات من الجهد والعمل.  

لقد اقتربنا كثيراً، وأكثر من أي وقت مضى، من تحقيق هذا الهدف، خاصة بعد الإنجاز الكبير الذي تحقق بقرار إنشاء هيئة شرعية عليا للأعمال المالية والمصرفية في الإمارات، حيث شهدت الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، إطلاق مبادرتين في غاية الأهمية تستكملان بعضهما البعض: حملة "أسرتنا متماسكة"، وقرار إنشاء الهيئة الشرعية العليا للأعمال المالية والمصرفية، فالمبادرة الثانية سبب أساسي في تحقيق الرؤية الأولى حول تماسك المجتمع كأسرة واحدة، تسودها علاقات متبادلة من الرعاية والتكامل في الأدوار الاقتصادية والاجتماعية. 

إن قرار إنشاء الهيئة الشرعية العليا للأعمال، بمثابة وضع حجر الأساس في هيكل الاقتصاد الإسلامي ولكن في قمة الهرم هذه المرة، لأن بناء اقتصاد قوي وبهيكلية تشريعية وقانونية قوية، لا بد وأن يبدأ من القمة، وأن يستند في تحديد صلاحيات هذه القمة- أي الهيئة- إلى توجهات الجمهور ورغباته وحاجاته الأساسية، وإلى متطلبات التنمية. هذه هي سمة القيادة والمرجعيات الصحيحة كما حددتها العلوم الاجتماعية والاقتصادية الحديثة. 

وعندما نتحدث عن هيكلة الاقتصاد الإسلامي، فإنما نتحدث عن وضع إطار للعلاقات بين قطاعاته وتكامل أدوارها وتوزيعها على مسارات التنمية لتساهم في رفع الناتج الوطني وتعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني، ولا نتحدث عنها كمهمة فصل للاقتصاد الإسلامي عن محيطه. إن المرجعيات ومن ضمنها الهيئة الشرعية العليا للأعمال المالية والمصرفية، ستمارس أعمالها ضمن منظومة الاقتصاد الوطني، وستعزز علاقتها بباقي القطاعات التقليدية على قاعدة نقل الأثر الإجابي الذي ستتركه الممارسات المسؤولة للمؤسسات والبنوك الملتزمة بثقافة الاقتصاد الإسلامي.

هذه الثقافة التي تستمد ضوابطها من المقولات الاقتصادية التاريخية الأساسية وفي مقدمتها أن الإنسان والمجتمع نتاج طبيعي للبنية الاقتصادية، وأن الشكل الاقتصادي للدولة هو الذي يحدد شكل بنيتها الاجتماعية، والاقتصاد المتماسك والمستقر يعني مجتمعاً متماسكاً ويعني أسرة متماسكة ومستقرة كما حددتها الحملة التي رافقت قرار إنشاء هيئة شرعية عليا للأعمال في الدولة. هذا هو تماماً ما نقصده بطبيعة العلاقة بين اقتصاد إسلامي مهيكل واقتصاد وطني مستقر.

إن هيكلة الاقتصاد الإسلامي في "عاصمته دبي"، وفي دولة الإمارات حاضنته وراعيته، سيترك الأثر الكبير على تنافسية أسواق الدولة وجاذبيتها الاستثمارية. ولطالما تحدثنا عن تحديات القطاع المالي الإسلامي، ولطالما قلنا أن أهم هذه التحديات هي تشكيل مرجعيات موحدة ووضع معايير موحدة لتنظيم التعاملات ورعاية التوجه الاقتصادي. وأنا اعتقد أن تشكيل هذه الهيئة الشرعية، سيجعلنا مؤهلين أكثر من أي وقت مضى للعبور نحو مرحلة اقتصادية أكثر تقدماً واستدامة. كما سيساهم في تأصيل ثقافة الاقتصاد الإسلامي لدى المؤسسات والأفراد على حد سواء، فعندما تصبح التشريعات أكثر وضوحاً والمعايير أكثر انسجاماً، ستتحول إلى وعي متأصل في الممارسة الاقتصادية اليومية، لأن الناس بطبعهم يخشون من المبهم ولا يثقون به خاصةً عندما يتعلق الأمر بمصير أموالهم وثرواتهم.

كما أن مصير هذه الثروات، سواء الخاصة منها أو العامة، سيصبح ملموساً أكثر في نتائجه الإيجابية، لأن وجود هيئات شرعية في المؤسسات والمصارف الإسلامية، ترجع في قرارتها لهيئة شرعية موحدة، سيوجه التمويل نحو التنمية في الاقتصاد الحقيقي، ونحو الإنتاج والتصنيع وتعزيز قاعدة الاقتصاد الوطني وتنويعها، وسيضع الأولويات وفقاً للحاجات البشرية الأساسية، وسينأى بأموال وثروات البشر عن المخاطرة والمغامرة. 

وستسهم هذه الهيئة عند إنشائها، في تجاوز تحديات القطاع المالي بشكل عام، ليس في إطار الاستثمار وتوظيف الثروات فقط، بل وفي إطار الخدمات المالية مثل التكافل، وتمويل المشاريع الفردية والجماعية على قاعدة الشراكة الحقيقية بين المؤسسة والجمهور. 

أما الفائدة الأخرى التي ستنتج عن هذا القرار، فتكمن في النموذج الذي ستقدمه هذه الهيئة للعالم، مما سيسرع إنجاز هذه الخطوة في دول أخرى، وبإمكاننا أن نسهم في تعميم هذه التجربة وإيصالها للآخرين من خلال علاقاتنا ولقاءاتنا معهم في الفعاليات الإقليمية والعالمية التي تجمعنا بهم. 

إن هيكلة الاقتصاد الإسلامي أو أي اقتصاد آخر، وحتى تكتمل، تحتاج إلى الاستمرار في إنتاج الثقافة الاقتصادية المسؤولة، ثقافة تستند إلى العلوم والفقه في آن، وتستوعب الحداثة وتستلهم منها قواعد وأحكاماً جديدة، ثقافة تتوافق مع متطلبات إنتاج معايير وضوابط تدفع بالاقتصاد نحو النمو دوماً. 
لقد قطعنا شوطاً طويلاً في هذا السياق، حددنا غايات الاقتصاد الإسلامي، حددنا عوامل النمو المستدام، حددنا مشروعية تدوير المال وتوظيفه في الاقتصاد الحقيقي، ولا تزال أمامنا مهمة إنتاج الأدوات الأكثر ملاءمةً لتحقيق الغايات، وهذه مهمة ثقافية علمية بامتياز، فإذا كان هيكل الاقتصاد هو الجسد الذي يمارس النشاط، فثقافة الاقتصاد الإسلامي هي، بلا شك، روح هذا الجسد.