هذا المقال بقلم الدكتور لؤي شبانة، مدير صندوق الأمم المتحدة للسكان للمنطقة العربية، والآراء الواردة أدناه تعكس وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
أقرّت الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة يوم 11 تموز/يوليو يوما عالميا للسكان، وربطت بشكل مباشر بين السياسات السكانية وبين الازدهار الاقتصادي، إذ أفادت أهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بإمكانية القضاء على الفقرالمدقع إذا عالجت الدول العلاقة المعقدة بين النمو الاقتصادي وتنظيم الأسرة والمساواة بين الجنسين واستطاعت تفعيلها. لذلك فإن إيجاد حلول وسياسات تحافظ على صحة المواطنين وتوفر لهم حياة كريمة، والعمل على حصول الجميع على متسوى معقول من التعليم تعد جميعها عمدان الأساس لمجتمع صحي.
العلم ينتج المعرفة ووسائل الرفاهية، وكلما تطور العلم تحسنت معرفتنا عن الحياة وديناميكيات عملها وطورت قدرتنا على الوصول لوسائل الرفاهية بطريقة أسرع وأسهل، والعلم ينتج بيئات وحواضن تقرب البعيد وتتيح السيطرة على كل ما هو معقد. لذلك، فالعلم وما ينتجه من معرفة يعززان قدرات الإنسان ورأسماله البشري وهما بذلك يشكلان شرطاً ضرورياً لتنمية المجتمع وازدياد رفاهيته، لكن هل وجود العلماء وتوفر المعرفة يكفيان لتنمية المجتمع وتحسين مستوى رفاهيتهم؟ الجواب قطعاً لا. فالوطن العربي مليء بالعلماء والمفكرين والباحثين والعارفين بشتى مجالات الحياة لكن مجتمعاتنا لا تزال فيها جوانب عديدة متخلفة ولم تتطور اقتصادياتنا ومستوياتنا الاجتماعية بشكل متناغم، ذلك ان العلماء والمفكرين ليسوا مؤثرين في مسار الحياة وطرق معيشتنا حيث تغيب الحكمة المجتمعية والسياسية لصالح الخرافات والأعراف والتقاليد والعيب وأمثاله من الأحكام.
أما على صعيد السياسات، فإن العلماء والمفكرين لم يحظوا بمكانة مؤثرة بحيث تغير في مسار الحياة وطرق معيشتنا. لذا فكثيرا ما تغيب حلقة الوصل بين البحث العلمي وبين السياسات الوطنية، وهو عكس ما نلاحظه في البلاد المتقدمة حيث تلعب مراكز الأبحاث أو ما يسمى بـ "مؤسسات التفكير" دورا كبيرا في الضغط على الحكومات من خلال نتائج البحث العلمي.
لنأخذ موضوع السكان كمدخل إلى التنمية، ولننظر إلى ضرورة المواءمة بين النمو الاقتصادي لأي بلد وبين زيادته السكانية، فلو كان تسارع زيادة السكان أعلى من تسارع تطور الدخل والحالة الاقتصادية فسوف يضطرالمجتمع أن يضحي بمستويات رفاهيته ويسير تدريجيا نحو الفقر. بالمقابل، وفر لنا العلم وسائل للمواءمة بين الاقتصاد والزيادة السكانية من خلال برامج تنظيم الأسرة، كما أتاح لنا البحث الطبي فهم آثار الولادات المتقاربة على صحة الامهات، ووفرت الدراسات الاقتصادية نماذج عن تكاليف زيادة عدد الأولاد على ميزانية الأسرة والدولة. لكن غياب الحكمة السياسية المجتمعية لاستخدام هذه المعرفة والأدوات بسبب الجهل والاعتماد على رواد رأي غير واعين ولا يقدرون العلم أدى إلى استمرار السلوكيات السلبية في مجال النمو السكاني، كما هو الحال في الخوف من استخدام وسائل تنظيم الأسرة نتيجة خرافات غير صحيحة كـ "معارضة قدر الله" أو أنها "تؤثر سلبا على صحة المرأة وقدرتها على الانجاب،" إضافة لمعتقدات تعكس نمط قدري في التفكير بعيداً عن التخطيط مثل "الرزق يأتي مع الولد"، أو "هذه إرادة الله."
على صعيد متصل، أتاح العلم تقدما في مجال الاتصالات وفضاءات مفتوحة تتيح لنا تبادل المعلومات والخبرات والتواصل خصوصا من خلال أدوات وشبكات التواصل الاجتماعي. ورغم ما يراه البعض على أنه تأثير سلبي لتوفر معلومات لا سيما للشباب واليافعين، إلا أن من شأن العمل والمعرفة، إن تم توظيفها من قبل الأسرة بشكل حكيم، أن تخلق عند المراهقين أرضية معرفية تساعدهم باتخاذ قرارات تفيدهم. إذ أتاحت لنا المعرفة أن نحصل على معلومات حول الصحة الإنجابية مثلا، وهو موضوع أساسي يعمل عليه صندوق الأمم المتحدة للسكان، إذ يرى في تحقيق الصحة الإنجابية دليل على تحقيق تقدم في مجالات ثلاثة: الصحة، الحقوق والاقتصاد، أو بمعنى آخر يلاحظ أن الدول التي تعطي أهمية وترصد ميزانية لموضوع الصحة الإنجابية هي غالبا دول تحقق فيها مستوى معقول من حقوق المرأة، فأصبح لديها المعرفة بالجوانب الصحية المرافقة لعملية الحمل والإنجاب، كما هي دول فهم فيها المجتمع ما سوف يترتب على الأسرة من تكاليف عند إضافة كل طفل وأخذت قرار الإنجاب وهي مدركة تبعاته.
أما في بلادنا، فما زال هناك تردد في الأوساط السياسية والدينية والثقافية عموما من جدوى الاستثمار في الشباب خصوصا فيما يتعلق بمعرفتهم بأمور الصحة الإنجابية، ومن جدوى تمكين المراة وتعزيز حصولها على حقوقها ضمن الأسرة والمجتمع، ويستمر تهميش المراهقات عموما ضمن المجتمع بدل أن تتم مساعدتهن على التمتع بحقهم في التعليم واكتساب المهارات والحصول على الخدمات الصحية والوسائل اللازمة للتمتع بصحة انجابية تضمن نمو الشباب والمراهقات في بيئة آمنة خالية من الأمراض والسلوكيات الضارة. وبينما ذهب البعض الى اعتبار ذلك محاولات "خارجية" للسيطرة على مجتمعاتنا والتغيير في معتقداتنا، فإنه نسي أن العلم نور، والمعرفة حق والوعي جزء أساسي من تجنب الخطر. لنعمل إذا على ربط العلم بالتقدم بشكل فعلي، ولنعطي فرصة للشباب والشابات أن يفهموا فيقرروا ما هو مفيد لهم. نحن بحاجة لثورة في السلوك الاجتماعي من أجل تمكينه لاستخدام مخرجات العلم وأداوته المعرفية كحاضنة مهمة للتنمية المستدامة.