مقال بقلم عدنان أحمد يوسف، رئيس اتحاد المصارف العربية سابقا وعضو مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمجموعة البركة المصرفية. المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي CNN.
عندما يتحدث المزيد من الخبراء والأكاديميين الغربيين عن تعاظم أهمية التمويل الإسلامي بسبب أن مبادئه الدينية والأخلاقية هي مبادئ إنسانية عالية وراقية، فلأنهم بذلك باتوا يقتربون أكثر وأكثر من الحقائق التي ارتكزنا عليها منذ البداية ومنذ سنوات طويلة في تحديد هوية وملامح ودور التمويل الإسلامي، وهذه الشهادات تؤكد في الوقت نفسه أيضاً أن التمويل الإسلامي استطاع ولحد كبير أن يعبر عن هويته بصدق وأن يوصل رسالته العالمية.
نحن نؤمن أن مصدر الأديان السماوية جميعها واحد وهو الخالق سبحانه وتعالى، وقد أجمعت كافة هذه الأديان على تحريم الربا، وأن الأموال والأعيان هي أمانة بيدنا يجب أن نستعملها في إعمار الأرض أي يجب أن توظف في خدمة التنمية. وهذا ما أكده مؤخراً السيد ثيودور روزفلت مالوك، الباحث الأمريكي المتخصص في الاقتصاد في جامعة ريدنغ البريطانية، والذي ألف كتاباً بعنوان الحكمة العملية في الإدارة يبحث في سمات 14 ديانة وتوجهاً فلسفياً. ويقول مالوك إننا عندما ننظر لهذه التقاليد الدينية - سواء المسيحية أو اليهودية - وكذلك الفلسفات الإنسانية، سنرى توافقاً في تلك القضايا الرئيسية المنسجمة مع التمويل الإسلامي. كما تحدث السيد مالوك عن نمو تدريجي يشهده العالم حالي نحو الاستثمار بدافع من المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية، مشيراً إلى أن التمويل الإسلامي بات جزءاً من تلك الحركة الدولية الكبيرة خاصة وأن هذا النوع من التمويل ينبثق كأحد المحفزات باتجاه الاستدامة، انسجاماً مع أهداف التنمية المستدامة التي أصدرتها الأمم المتحدة.
وقد أرجعني هذا الحديث إلى ورقة كنت قد تقدمت بها إلى المنتدى العالمي التاسع للتمويل الإسلامي الذي نظمه البنك الإسلامي للتنمية في جدة في يونيو/ حزيران 2014 والتي تناولت فيها بصورة خاصة العلاقة بين التمويل الإسلامي والتنمية.
وقد بينت في هذه الورقة أن تعريف الأمم المتحدة وبقية المنظمات الدولية لمفهوم التنمية قد تطور على مدى العقود الخمسة الماضية، وقد أوصل هذا التطوير المفهوم إلى محتوى مقارب إن لم نقل مطابق لتعريف التنمية في أفقها الإسلامي والإنساني. إذ في مطلع الستينات، جرى تعريف التنمية الاقتصادية بأنها "العملية التي يتم بواسطتها، في بلد معين، تزايد مطرد في متوسط الدخل الحقيقي للفرد عبر فترة طويلة من الزمن." وهذا ما يسمى بالنمو الاقتصادي (economic growth). إلا أن هذا المفهوم المبسط للتنمية أثبت فشله الذريع حينما باتت العديد من دول العالم تشهد نمواً اقتصادياً مضطرداً تزامن معه زيادة الأغنياء غنى والفقراء فقراً. فلقد بات من الواضح أن النمو الاقتصادي بحد ذاته لا يحقق التنمية بمفهومها الاجتماعي حينما لا تتزامن معه أي أهداف وآليات تطال الشرائح الأوسع في المجتمع. من هنا بدأت الأمم المتحدة ومنذ الثمانينيات بوضع تعريفات جديدة للتنمية باعتبارها عملية حضارية مستدامة وحقاً من حقوق الإنسان، حيث تعتبر "التنمية الشاملة عملية مجتمعية واعية ودائمة (sustained) من أجل إيجاد تحولات هيكلية وإحداث تغييرات اجتماعية واقتصادية تسمح بتحقيق تصاعد مطرد لقدرات المجتمع المعني وتحسين مستمر لنوعية الحياة فيه". وهكذا نلاحظ أيضاً أن مفهوم التنمية السليم التصق بتنمية الاقتصاد الحقيقي والإنسان نفسه من خلال تمليكه القدرات اللازمة للعمل والإنتاج.
وللأمانة وللتوثيق التاريخي نقول هنا إنه بينما كان مفهوما التنمية والتمويل يتطوران عبر موج متلاطم من الأحداث والنظريات عبر العقود الخمسة الماضية، كان مؤسس مجموعة البركة المصرفية ورائد الحركة المصرفية الإسلامية المعاصرة سعادة الشيخ صالح عبد الله كامل الذي بدأ مسيرة الصيرفة الإسلامية في نهاية الستينات وقام بتأسيس أول مصرف إسلامي يتبع لمجموعة البركة المصرفية عام 1978، كان يضع اللبنات السليمة لكلا مفهومي التنمية والتمويل واللذين توصل لهما العالم فيما بعد. فقامت فلسفة العمل المصرفي الإسلامي لديه على مفهوم "إعمار الأرض"، الذي يعني "إضافة قيمة ملموسة إلى الأصول". إن لهذا المفهوم صلة مباشرة بتطوير المجتمع وتقدمه الاجتماعي والاقتصادي، ويتم تطبيقه على صعيد التمويل الإسلامي من خلال وساطة استثمار نشطة تمثل تكملة لعمليات إنتاجية حقيقية ذات قيمة مضافة ومن خلال تبادل السلع والخدمات، وهو ما يمكن التمويل الإسلامي من تقديم بدائل عملية عن أولئك الوسطاء الماليين الذين لا يقدمون أي منفعة للمجتمع بشكل عام. وبذلك يجسد التمويل الإسلامي منذ سنوات طويلة التطبيقات السليمة لعلاقة التمويل بالتنمية الاقتصادية.
وخلال فترة ترأسي لفريق تمويل التنمية في مجموعة الأعمال B20 التابعة لمجموعة العشرين G20، نجحنا ولله الحمد في وضع التمويل الإسلامي على جدول أعمال قمة مجموعة العشرين التي عقدت العام الماضي في أنطاليا بتركيا وتضمن البيان الختامي للقمة تأكيد على دور الصيرفة الإسلامية ودورها في تمويل الاستثمارات والنمو عالمياً. وقد تحقق هذا الإنجاز بعد جهود كبيرة بذلناها على أكثر من صعيد رسمي واقتصادي. ونواصل جهودنا حالياً لتعزيز هذا الانجاز الهام وتحقيق آليات لدعم التمويل الإسلامي على المستوى العالمي، وبما يحقق أوسع انتشار واعتراف لهذه الصناعة ويعزز دورها في تحقيق أهداف التنمية العالمية.
إن النموذج الفكري للمصرفية الإسلامية يقوم على ثلاثة مرتكزات أساسية في تجسيد علاقته مع التنمية الاقتصادية. المرتكز الأول هو مقاصد الشريعة. وهي تعنى بضرورة الالتزام بالضوابط الكلية الحاكمة لمجالات التبادل الاقتصادي بحيث لا يكون النشاط موضوع العلاقة الاقتصادية محرماً في حد ذاته أو لا يحقق المصلحة العامة. والمرتكز الثاني هو الآليات، وتشمل كافة الصيغ المباحة وتعمل كغطاء شرعي وقانوني لتكييف وتقنين الهيكلة وعلاقة التبادل وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية. أما المرتكز الثالث فهو المآلات، وهي النتيجة المرتجاة من عملية التبادل الاقتصادي بحيث تكون نتيجة التمويل محققة لمصلحة الفرد والمجتمع.
إن كافة هذه الإنجازات التي يحققها التمويل الإسلامي لا تعفينا من القول أخيراً إن المسيرة أمامه لا تزال طويلة، وهو لا يزال بحاجة لكافة جهود المؤمنين بالمبادئ التي يرتكز عليها وفي العديد من المجالات التي تطرقنا لها في مقالات سابقة. كما نجدد دعوتنا في هذه المناسبة إلى كافة الحكومات العربية والإسلامية بألا تتردد في تطوير تشريعاتها المالية والمصرفية لفسح المزيد من المجال لتوسع وانتشار الصيرفة الإسلامية (المشاركات)، كما على المؤسسات الإسلامية المالية والمصرفية المتخصصة مثل الأيوفي ووكالة التصنيف الإسلامية العالمية وغيرها أن تواصل تطوير المعايير واللوائح التي تقوي وتعزز المكانة العالمية للتمويل الإسلامي إلى جانب مواصلة تعاون المصارف المركزية مع البنوك الإسلامية في ابتكار الحلول والمنتجات التي تجسد بصورة أكبر مساهمة هذا التمويل في الرخاء والتنمية حول العالم.