هذا المقال بقلم تشارلز يانغ، رئيس شركة "هواوي" الشرق الأوسط، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
في الوقت الذي تعمل فيه دول الشرق الأوسط على تطوير بنيتها التحتية الرقمية، فإن أهم التطورات التي ستتحقق خلال هذا العقد ستكون نتيجة تلقائية للجهود المميزة التي بذلت في مجال الأبحاث النظرية والأساسية، والإنجازات التي تحققها لتمهد طريق التنمية والتطوير خلال الحقبة الرقمية الحالية.
شكّل التركيز المستمر على ما ندعوه بـ"البحث الأساسي(Basic Research) أو (Fundamental Research ) مصدر قوة للقطاع الصناعي على مدار الألف عام الماضية. ويشمل ذلك أسس الرياضيات والميكانيك والبصريات وعلم الأحياء والفيزياء، حيث يتعين على جميع الشركات القيام بما يجب على صعيد إجراء الأبحاث والتطوير الكفيلة ببقاء منتجاتهم ضمن دائرة المنافسة. ومع ذلك، فإن مفرزات الابتكارات اليومية التي تتم بشكل تدريجي -ولربما سطحي- يستهدف انفراد المنتج بميزة أو ميزات معينه تؤهله من تحقيق نسبة المبيعات المستهدفة، لا بد وأن تقف وقفة جادة أمام الهدف الأسمى المتمثل في تحقيق ابتكارات نوعية مهمة من خلال الأبحاث الأساسية التي تعتبر المحرك الحقيقي للوصول لأنواع جديدة تماماً من الصناعات والخدمات.
على مدى عقود، أسهمت التطورات النظرية التي تم التوصل لها من خلال الأبحاث الأساسية إلى اختراعات نوعية مثل المحرك البخاري والمفاعل النووي والتي تعتبر من الإنجازات التي يجب أن نعطيها الأولوية خلال عملنا الجاد على تحقيق ابتكارات جديدة تتماشى مع متطلبات هذا العقد. وأيد مؤشر الابتكار العالمي (GII) لعام 2019 هذه الفكرة، حيث أشار بوضوح إلى أن تحويل التركيز من كمية الابتكارات إلى جودتها يمثل أولوية عالمية.
يعتبر قطاع التكنولوجيا حالياً واحداً من أهم القطاعات التي تعتمد على الأبحاث الأساسية. وقد ساهمت الخدمات التي يقدمها قطاع تقنية المعلومات والاتصالات في تعزيز البحث والتطوير على مستوى العالم بشكل كبير وفقاً للوائح الاستثمار في البحث والتطوير الصناعي لعام 2019. وقد أبرزت العديد من الدراسات الحديثة ومن ضمنها قائمة مجموعة بوسطن الاستشارية السنوية للشركات الأكثر ابتكاراً على مستوى العالم الدور الرئيسي للتكنولوجيا في مجال الابتكار والأثر الحيوي للتقنيات الرقمية على المستخدمين والقطاعات التقليدية. ويبدو من الطبيعي أن تكون الشركات التكنولوجية هي الشركات الرائدة في مجال الابتكار في عام 2019.
من أهم الأمثلة الحالية التي يمكن تسليط الضوء عليها كأحد أبرز إنجازات الأبحاث الأساسية الانتشار الحالي لاتصالات الجيل الخامس. وقد حدد البحث الذي أجراه الدكتور إردال أريكان - والذي نُشر في عام 2008 بدعم من شركة هواوي - طريقة مبتكرة لتعزيز عمليات نقل البيانات بشكل مضمون. وأدى هذا الإنجاز في مجال الأبحاث الأساسية إلى تطوير ونشر تقنيات الجيل الخامس خلال وقت أقصر من المتوقع مع بداية عام 2019.
وبالنظر إلى متطلبات العقد القادم التي قد تكون أكثر تعقيداً من سابقاتها، نجد أن هناك الكثير من الأمور التي نحتاج لفهمها والتمعن بها بشكل أفضل من خلال القيام بالأبحاث الأساسية قبل أن نقفز للتركيز على هدف تحقيق مكاسب آنية في إطار سعينا لكسب مزيد من الأرباح من خلال ابتكارات متواضعة نطلقها في الأسواق. فقطاع تقنية المعلومات والاتصالات يواجه العديد من العقبات ويتوقع منه الكثير إثر 50 عاماً من التطور المتسارع. وهذا يعني أننا بحاجة ماسة بداية إلى إنجازات نظرية في مجال الأبحاث الأساسية لتمكننا من الوصول لاستراتيجية ثورية جديدة في مجال الابتكار. ونشير في هواوي إلى ذلك على أنه التنقل التدريجي الأمثل بين درجات مختلفة من الابتكار للحصول على النتيجة النهائية الأفضل التي تعتبر إنجازاً حقيقياً يتفرد ببعد ابتكاري جديد تماماً لا ينحصر ضمن دائرة تميز منتج معين بابتكارات جديدة فحسب، بل يكون الأمر أشمل وأوسع بحيث يسهم الابتكار الجديد في تغيير مسار صناعة أو قطاع بالكامل. فنحن لا نتطلع إلى تحقيق الابتكارات التكنولوجية والهندسية فحسب، وإنما يتمثل هدفنا الأسمى بتحقيق إنجازات نوعية في مجال الابتكارات النظرية للبحوث والتطوير بداية، والتي عادة ما تكون نتيجتها التلقائية تحقيق إنجازات مهمة جداً في مجال الابتكارات التكنولوجية الأهم في مسيرة تطوير الصناعات.
ما سبق ذكره يستدعي قيام الشركات بأخذ دورها كما يجب في مجال خوض الغمار الحقيقي للبحث والتطوير من خلال التركيز على البحوث الأساسية بالدرجة الأولى. وهنا، يبرز نهج هواوي المتميز في التركيز على الاستثمار في مجال البحث والتطوير، حيث استثمرت أكثر من 100 مليار دولار أمريكي في الأبحاث على مدار الثلاثين عاماً الماضية. وتسعى الشركة إلى تعزيز استثماراتها في مجال الأبحاث الأساسية من خلال تخصيص 20% إلى 30% من ميزانية البحث والتطوير السنوية للأبحاث الأساسية وحدها. وتساهم هواوي من خلال معهد الأبحاث الاستراتيجية في تحويل نتائج الأبحاث النظرية أو ما يعرف بـ"الابتكار من الدرجة الثانية" إلى واقع ملموس من خلال استكشاف دورة حياة المعلومات بالكامل انطلاقاً من توليد المعلومات وتخزينها وصولاً إلى الحوسبة والنقل والعروض التقديمية حتى الاستهلاك.
اليوم، تضع التكنولوجيا بين يدينا أساسيات جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي تتيح إمكانات هائلة لإنشاء خوارزميات ورقائق إلكترونية جديدة تعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي وتساهم في بناء الصناعات الذكية. كما تعد أبحاث الشبكات اللاسلكية واحدة من المجالات المهمة أيضاً، حيث يسعى العالم إلى تعزيز سعة الشبكة في الوقت الذي يتصل مليارات الأشخاص والأجهزة بها. وسيتيح لنا تطور الحوسبة إعادة تشكيل الوحدات الأساسية لتخزين ونقل البيانات، مما يمكننا من حل المشكلات التي لا يمكن لأجهزة الحاسوب التقليدية حلها بسرعة أكبر.
وقد ساهم انخفاض تكاليف الاتصالات العالمية في تعزيز كمية ونوعية الأبحاث التعاونية بين الحكومات والشركات والمؤسسات الأكاديمية. ويبدو هذا التعاون جلياً في منطقة الشرق الأوسط مع تحول الشركات التكنولوجية والهندسية إلى التعاون مع أفضل الخبرات العلمية في المختبرات الجامعية. كما تنفتح الشركات الخاصة في الوقت نفسه على برامج الابتكار المشتركة، حيث برزت أهمية هذا التعاون من خلال إنشاء العديد من مراكز هواوي للابتكار المشترك في منطقة الشرق الأوسط على مدار العقد الماضي.
إن إدراك قيمة الأبحاث الأساسية سيمكّن المؤسسات والحكومات في الشرق الأوسط من تحديد العوامل الأساسية التي تساهم في تحقيق الإنجازات الكبيرة. ويعتبر التعاون بين الشركات الخاصة والجامعات من العوامل الجوهرية التي تعزز الأبحاث الأساسية، حيث يتيح هذا التعاون الفرصة لطلاب الدراسات العليا والباحثين للتدريب واكتساب الخبرة العملية، مما يساهم في الوصول لمراحل التطور التي تتطلب تحويل الاختراعات العظيمة التي تتيحها الأبحاث التكنولوجية إلى منتجات ملموسة تحقق نجاحاً لصالح مستقبل البشرية.
يعتبر تطور شبكات الابتكار العالمية عاملاً جوهرياً من أجل تعزيز الأبحاث الأساسية. وتعد العلاقة بين الولايات المتحدة والصين مثالاً واضحاً على ذلك على الرغم من الأوضاع السياسية بينهما في الفترة الأخيرة. فقد توصلت المؤسسة الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة مؤخراً إلى أن معظم المقالات المنشورة على المستوى العالمي قد أعدها العلماء والمهندسون الأمريكيون بالتعاون مع شركائهم الصينيين، وأن الشركات الأمريكية تنفق على أنشطة البحث والتطوير في الصين أكثر مما تنفقه في أي بلد أجنبي آخر.
ويبرز دور التعاون العابر للحدود بالنسبة لدول الشرق الأوسط أكثر من أي وقت مضى في متابعة برامج البحث والتطوير. ويتم تعزيز هذا التعاون حالياً بفضل الجهود المبذولة لإزالة العقبات التي تعترض الاستثمارات والمواهب الأجنبية، إذ حققت دول الخليج على وجه الخصوص تقدماً ملحوظاً على صعيد تحرير الأسواق وإتاحة برامج الإقامة ومراجعة لوائح التأمين والتأشيرات الأجنبية وإقرار قوانين تعزز المنافسة بما يخص قوانين ملكية الأجانب، حيث ساهمت هذه الإصلاحات في توفير بيئة ملائمة للابتكار.
يمكننا القول بأن تقدم الأبحاث الأساسية يعتبر عملاً متكاملاً تنجزه آلاف العقول جيلاً بعد جيل. كما أن بناء عالم رقمي وذكي يتطلب جهوداً مشتركة، إذ ينبغي لنا تجاوز الحدود والعمل معاً لبناء نظام إيكولوجي يتيح الازدهار والنجاح المشترك من خلال عدد كبير من العلماء والأساتذة والمحترفين وواضعي السياسات. وما زال أمامنا الكثير لننجزه في سعينا نحو العالم الذكي الذي نطمح لتحقيقه، حيث يفرض هذا العمل المتكامل على كل منا دوراً محدداً عليه أن يؤديه كما ينبغي.
الشرق الأوسط مهد الحضارات وأصلها، يحفل تاريخه بالعديد من الاكتشافات والابتكارات والإنجازات الهامة في مجال الرياضيات والطب والهندسة المعمارية وغيرها من العلوم، وضعت جميعها في خدمة البشرية وتطور الحضارات. وليس من الصعب أبداً أن يعود الأمر لسابق عهده من خلال تحفيز الفكر الابتكاري والقيام بما هو واجب في مجال بناء منصات أبحاث الابتكار وتشجيع العمل المشترك وتضافر جهود البحث والتطوير الذي لابد وأن يبدأ بالبحوث الأساسية والنظرية التي ستؤتي أكلها لاحقاً بما يتناسب مع الخطط الاستراتيجية الوطنية لدول المنطقة. ونحن على أهبه الاستعداد لتسخير كافة إمكانياتنا في مجال البحث والتطوير لخدمة هذا الغرض، ويسعدنا بناء مزيد من جسور العمل المنفتح والمشترك مع كافة الجهات العامة والخاصة لبناء النظام الإيكولوجي الأمثل لصناعة الاتصالات وتقنية المعلومات في إطار تحقيق هذا الهدف. ولابد أن نتذكر دائماً بأن الإنسان هو العامل الأهم في تحقيق أي إنجاز. لذا فإن تطوير مواهب شباب المنطقة وصقل مهاراتهم وشحذ هممهم في مجال التكنولوجيا الحديثة هو المحور الأهم الذي يجب التركيز عليه عند وضع خطط واستراتيجيات الابتكار. فشباب اليوم هم قادة المستقبل الذين ستقع على عاتقهم مسؤولية التغيير وإجراء التحول بما يتماشى مع تطلعات المجتمعات خلال العصر الرقمي.