هذا المقال بقلم الدكتور حبيب الملا، الرئيس التنفيذي لمكتب "بيكر ماكنزي-حبيب الملا" للمحاماة في الإمارات العربية المتحدة. إن الآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
أعاد التفجير الهائل الذي شهدته مدينة بيروت إلى الأذهان حالات الاحتيال البحري التي يغفل عنها الكثير من المراقبين. إذ شهدت صناعة الشحن والتجارة البحرية خلال السنوات الأخيرة زيادة حادة ليس فقط في عدد حالات الاحتيال ولكن أيضًا في تنوع الاحتيال وتطوره. إذ أصبح المحتالون أكثر إبداعًا في تصميم وتنفيذ مخططاتهم، بما في ذلك استخدام التكنولوجيا الحديثة مثل قرصنة الكمبيوتر مع الحفاظ في بعض الأحيان على أساليب المدرسة القديمة التي تم تجربتها واختبارها، مثل تزوير المستندات. وكذلك يتعرض مالكو السفن للضغوط لكسب أعمال جديدة وفى سبيل ذلك يتجاهل الكثيرون منهم العناية الواجبة عند التعامل مع شركاء تجاريين جدد. وتتبنى الموانئ تقنيات جديدة يمكنها في أسوأ الأحوال تمكين أنواع جديدة من الاحتيال (مثل أتمتة عمليات الحاويات).
ولقد تم إنشاء هيئة رقابية خاصة للكشف عن عمليات الاحتيال البحري والإبلاغ عنها ومكافحتها، وهو المكتب البحري الدولي أو IMB في عام 1981 كقسم متخصص في غرفة التجارة الدولية (ICC). وكذلك المنظمة البحرية الدولية التي حثت في قرارها A 504 (XII) (5) و (9) المعتمد في 20 نوفمبر 1981 الحكومات والمنظمات والأطراف المعنية على التعاون وتبادل المعلومات فيما بينها لمكافحة عمليات الاحتيال البحري في جميع أنحاء العالم.
وعودة إلى التفجير الذي شهدته مدينة بيروت فقد ذكرت الأنباء المتداولة عن هذا التفجير أن سفينة تحمل اسم روسوس كانت محملة بشحنة نترات الأمونيا. وهذه السفينة مسجلة في جمهورية مولدوڤا ومملوكة للملياردير الروسي إيغير غريتشوشكين من خاباروفسك المقيم حاليا في ليماسول بقبرص. وكانت السفينة قادمة من ميناء بتومي في جورجيا في طريقها الى موزمبيق حيث يقال إنها تعرضت إلى عطل في طريقها وهي بالبحر المتوسط فلجأت إلى ميناء بيروت حيث تم احتجازها سنة 2013 ومصادرة الشحنة لأن أوراق الشحن لم تكن سليمة.
ولقد أمضى القبطان وثلاثة من أفراد الطاقم 11 شهرًا على متن السفينة بينما استمر النزاع القانوني. ثم تم إطلاق سراح البحارة الأوكرانيين بعد تدخل الحكومة الأوكرانية. وبمجرد مغادرتهم تم تفريغ نترات الأمونيوم وبقيت الشحنة في المخازن منذ ذلك الحين.
وذكر بوريس بروكوشيف قبطان السفينة روسوس أنه في عام 2013 أخبره مالك السفينة أن يتوقف في بيروت لجلب حمولة إضافية. وطُلب من الطاقم تحميل معدات ثقيلة للطرق ونقلها إلى ميناء العقبة الأردني ثم استئناف رحلتهم إلى موزمبيق. ولما كانت السفينة قديمة قرر عدم المخاطرة. وقد غرقت السفينة روسوس المهجورة وفقًا لرسالة بريد إلكتروني من محام كان يعمل على القضية عام 2018. وقال ليفان بورديلادزي، مدير مصنع روستافي آزوت بجورجيا، لرويترز إن قرار تخزين المواد في مرفأ بيروت انتهاك جسيم لإجراءات التخزين الآمن.
وهناك أخبار أخرى تم تداولها تذكر أن الباخرة ليست روسية، بل هي باخرة يمتلكها رجل أعمال إيراني روسي مقيم في جورجيا ومعروف بدعمه للحرس الثوري الإيراني وأنه تم خلق سيناريو يتحدث عن مخالفة الباخرة وحمولتها للشروط لمصادرة الشحنة.
والاحتيال البحري يدرس في الأكاديميات البحرية من التسعينيات وهو ليس الاحتيال بمفهومه الجنائي وإنما هو اتفاق عده أشخاص على استخدام الأعراف والقوانين البحرية للوصول إلى نتيجة غير ما ترمي إليه العمليات التجارية. ولا توجد في القوانين الجزائية تعريف لمفهوم الاحتيال البحري كما لا توجد نصوص في القوانين العربية تعالج عمليات الاحتيال البحري.
وصورة الاحتيال البحري تقوم على استخدام الثغرات في القوانين لتحقيق أهداف غير مشروعة وتصوير الأمر بأنه عملية نقل المواد من ميناء إلى آخر بينما هو في حقيقة الأمر تهريب مواد ممنوعة أو خطرة. ويتم استخدام السفن القديمة وتحميل نفايات مشعة أو كيماوية أو مواد خطرة عليها والتخلص منها في المياه الدولية أو في بعض الموانئ ذات الإجراءات الضعيفة. وحيث أن القانون البحري يسمح للسفن التي تتعرض لمشاكل أن ترسو في أقرب ميناء بحري للإصلاحات تبقى السفينة في الميناء تحت ذريعة خطورة إصلاحها لما تحتويه من مواد. ومن ثم يقوم مالك السفينة بالتخلي عنها بحمولتها ويطلب من القضاء إنزال البضائع نظرا لخطورتها. وبإنزال هذه الوقائع على حالات الاحتيال البحري المعروفة على حالة السفينة روسوس يتبين أن تخلِى مالك السفينة عنها إجراء معمول به في القانون البحري عندما تكون على السفينة ديون مستحقة للميناء من رسوم وأجرة تخزين فيقوم مالك السفينة باستخدام حق التخلي وفيه يتخلى المالك عن السفينة وحمولتها للدائنين. وهو نوع من أنواع تحديد المسئولية في القانون البحري. وفي الأحوال المعتادة يقوم الميناء والدائنون بالحجز على السفينة وبيعها بالمزاد. وكذلك إذا لم يتقدم اصحاب البضائع لاستلامها فتقوم السلطات حينها بالحجز على البضائع وبيعها بالمزاد وفاءً لرسوم التخزين. ويتم استخدام هذا الإجراء أحيانا كنوع من الاحتيال البحري ومضمونه أن يقوم المحتالون (أو الإرهابيون) بالتعاقد مع مالك سفينة لنقل بضائع وتدخل السفينة الميناء لجوءً ومن ثم يترك الربان والبحارة، وقد يكون هؤلاء من فريق الاحتيال، السفينة. وتنتهي الجريمة بتفريغ البضائع في ميناء اللجوء لأنه غير مسموح بدخولها البلاد مباشرة ويتم بيع السفينة أو تركها. ويقوم المحتالون من خلال الاتفاق مع بعض الجهات الرسمية بالسحب تدريجيا من المخزن ودفع أجرة المخزن بينما يكونوا هم خارج الصورة وتكون البضائع في عهدة الجمارك وبأمر من قاضي الأمور المستعجلة.
وهناك توصيات أصدرتها الأمم المتحدة بشأن نقل البضائع الخطرة ضمنتها لائحة نموذجية مرت بمجموعة من التعديلات حتى وصلت إلى الطبعة السابعة عشرة. وتنص المادة 12 من اللائحة على أنه ينبغي اتخاذ تدابير معينة في كل مرة تقدم فيها بضائع خطرة للنقل وذلك لضمان إحاطة جميع الذين يحتمل أن يتعاملوا مع هذه البضائع أثناء النقل علما تاما بالمخاطر الكامنة في البضائع المقدمة. كما تنص المادة 16 على أنه ينبغي وضع احتياطات للطوارئ بغية حماية الأشخاص والممتلكات والبيئة في حالة الحوادث أو العوارض التي قد تقع أثناء نقل البضائع الخطرة. كما تنص المادة 2-1-1 من الأحكام العامة على حظر نقل أية مادة قابلة للانفجار أو التفاعل على نحو خطر في ظروف النقل العادية. كما تنص المادة 3-1-4-1 على أن تكون مواقع النقل ومخازن البضائع ومناطق التخزين آمنة بشكل مناسب وبعيدة عن عامة الناس. كما توجب المادة 3-4-1 والمتعلقة بالبضائع الخطرة الشديدة العواقب وهي البضائع التي يمكن أن تتسبب في سقوط أعداد كبيرة من الضحايا وحصول تدمير واسع على السلطات المعنية اتخاذ تدابير سلامة مفصلة ووضع خطط أمان فيما يخص التعامل مع هذه المواد. علما بأن مادة نترات الأمونيوم واردة ضمن البضائع الخطرة في اللائحة.
والأصل أن مثل هذه البضائع تستوردها الدول ويتم تفريغها وتخزينها من خلال الأرصفة الحربية. ونظرا لأن لبنان بها تنظيمات مسلحة بخلاف القوات المسلحة فمن هنا جاءت المشكلة في نقل وتخزين بضائع وأسلحة خارج الإطار الرسمي.
إن التفجير المروع الذي شهدته مدينة بيروت يلقي الضوء واسعا على عمليات الاحتيال البحري ويستدعي تعاونا دوليا لإجراء إصلاحات تشريعية للتعامل مع مثل هذه العمليات ومنعها نظرا للخسائر البشرية الفادحة والأضرار المادية الكبيرة التي تتسبب بها.