دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- الطعام يغلي على النار، دقائق قليلة ويحين موعد الإفطار. تفوح رائحة سلطة "الفتوش" الطبق الرمضاني اللبناني التقليدي، عندما تتمازج قطع الخضار التي قطعت بشكل صغير متناسق مع دبس الرمان وزيت الزيتون لتعطي رائحة يحاول الصائم أن يقاوم إغرائها قبل حلول موعد الإفطار.
توزع أطباق أخرى بتأن على المائدة الرمضانية، ومن بينها شوربة العدس المجروش البرتقالية اللون، والتي تخرج رائحة بهار الكمون بحدة منها، وأطباق أخرى صغيرة تعرف بـ"المازة" اللبنانية مثل فتة اللبن والحمص، والفطائر بسبانخ، والسمبوسك بالجبنة.
صوت المدفع الرمضاني يسمع من بعيد، ويعلو صوت الآذان. تبدأ العائلة المقيمة في منطقة الحمرا في العاصمة بيروت، بتناول فطورها، كأن ستارا من السلام والهدوء هبط حول المائدة. ستار لا يعكس ما يعيشه اللبنانيين خارج بيوتهم. تبقى المائدة الرمضانية بمثابة "كاموفلاج" لما قد يحصل في الخارج في ظل الوضع الأمني والاقتصادي المتدهور.
في الشوارع اللبنانية "وحش كاسر" هذا ما تصفه إيمان، رغم جو الطمأنينة الذي تعيشه مع عائلتها داخل الجدران الاربعة.
تقول ايمان إن "هناك تحديان يعيشهما الصائم في بيروت وهما الوضع الأمني والاقتصادي، فضلاً عن متطلبات الحياة الأساسية مثل المياه والكهرباء التي يعاني غالبية اللبنانيين من عدم توافرهما،" مضيفة أن "شهر رمضان صعب في لبنان، خصوصاً أن الشخص الصائم في بيروت، يعاني من الكثير من الضغوطات، بالإضافة إلى فترة الصوم التي تمتد لحوالي عشر ساعات."
أما الباحث اللبناني مكرم ربح فقال إن "البلد مفتوح أمنيا، والحالة هذه تفرض هواجساً من نوع آخر على الصائم، فالفراغ الرئاسي في لبنان، والمجلس النيابي الفاقد دستوريته، والتفجيرات الانتحارية المتنقلة، كلها تفرض الشعور بالرعب من الخروج من المنزل. وإذا خرج اللبنانيون من بيوتهم إلى أعمالهم او لشراء الطعام، فهم لا يصدقون أن يعودوا أدراجهم سالمين."
وأضاف ربح أن "الجو العام في لبنان خلال رمضان تأثر بكأس العالم ما أوجد حركة وهمية في الأسواق،" موضحاً أن "حماسة اللبنانيين للخروج من بيوتهم وحضور المباريات في المقاهي والحانات، خلق نوعاً من حالة انفراج مغشوشة."
وتبدو الحركة صعبة في بعض المناطق اللبنانية وخصوصاً في الضاحية الجنوبية لبيروت، بسبب التدابير الأمنية من قبل الدولة و"حزب الله"، وإقامة الحواجز على مداخل هذه المناطق بسبب الخوف من التفجيرات الانتحارية.
أما تنوع المائدة الرمضانية في مأكولاتها المختلفة خلال شهر رمضان، فيمثل مشكلة أخرى يعاني منها اللبنانيين إذ يعني الأمر مصروفاً أكبر على العائلات في ظل الحالة الاقتصادية الهشة التي تسود البلاد.
ويتمثل العامل الأهم بغلاء أسعار الخضار، والتي تعتبر من المكونات الأساسية للأطباق الرمضانية. وبدلاً من أن يكون طبق الفتوش طبقا تقليدياً بسيطاً، يمكن لأي عائلة تحمل كلفته، يصبح ترفاً لبعض العائلات.
وأوضح ربح أن الكثير من المؤسسات الخيرية اضطرت إلى إلغاء العديد من إفطاراتها التي كانت بمثابة طقس سنوي، بسبب عدم قدرة بعض اللبنانيين على التبرع للفقراء كما تجري العادة خلال شهر رمضان.
ولكن إذا كانت الأزمة الأمنية معروفة أسبابها، فما سبب الازمة الاقتصادية التي يعاني منها اللبنانيين وخصوصاً في رمضان؟
"المهن تموت تدريجياً في شهر رمضان" هذا ما قاله حسين شحرور، وهو صاحب أحد محلات بيع الألمنيوم في الضاحية الجنوبية، مضيفاً أن "الحظ الجيد يحالف فقط الأعمال التي ترتبط ببيع الأطعمة والمشروبات، والتي يصبح الطلب عليها كبيراً."
وإذا كان اللبنانيون يشتهرون بالكرم، فهذا الأمر أيضاَ أصبح طقساً بالياً "عندما يفرغ الجيب." وقال شحرور إن "الأقارب والأصدقاء، عادة ما يدعون بعضهم البعض إلى الموائد الرمضانية، ولكن هذه الظاهرة خفت كثيراً، بسبب الوضع الاقتصادي وغلاء الأسعار."
ويجمع الخبراء أن اللبنانيون يعيشون حالة قلق كبيرة، إذ أن الفراغ السياسي ضرب عملية التنمية الاقتصادية.
وقال الباحث الاجتماعي والاقتصادي، ربيع فخري إن الوضع الاقتصادي السيء في رمضان سببه الحالة الأمنية إذ أن غالبية الأشخاص من ذوي الدخل المحدود الذين يعملون في قطاع السياحة، هم الأكثر تأثراً في شهر رمضان، بسبب تراجع هذا القطاع جراء الوضع الأمني.
وأضاف فخري أنه في ظل الأزمة السورية، ونزوح الكثير من اللاجئين السوريين إلى لبنان، يوجد مضاربة بين اليد العاملة الأجنبية تخلق تنافسا بين العمال المحليين والوافدين الجدد، على موارد محدودة.
وأشار فخري إلى أن "اللبنانيون يشعرون برداءة الوضع الاقتصادي أكثر في رمضان بسبب زيادة المصروف وخصوصاً في ظل تنوع المأكولات على المائدة الرمضانية."
أما تردي قطاع السياحة خلال شهر رمضان، فيرده ربح أيضاَ إلى طبقة من المغتربين وخصوصاً في بلدان الخليج، التي تفضل عدم زيارة لبنان في رمضان، بسبب سهولة ومرونة أوقات عملهم خلال هذا الشهر تحديداً في بلاد الاغتراب، فضلاً عن خوف الكثير من السياح من زيارة لبنان والإقامة في الفنادق، بسبب التفجير الانتحاري الذي طال أحد الفنادق في منطقة الروشة مؤخراً.
وفي ظل كل ذلك التدهور، يبقى أن توفر المياه والكهرباء خلال شهر رمضان، أهم من توفير لقمة الطعام بالنسبة إلى الكثير من اللبنانيين. وقال شحرور إن "الكهرباء تقطع عند موعد الإفطار يومياً، والاشتراكات في مولدات الكهرباء، في الأحياء السكنية، ليس متوفراً للجميع، بسبب نظام الاحتكار والمحسوبيات."
وفي الضاحية الجنوبية، تضطر عائلة مكونة من أربعة أشخاص إلى شراء 10 غالونات من المياه كل 48 ساعة، أي ما تبلغ كلفته 12 ألف ليرة (سبعة دولارات)، رغم أن السعر زاد في رمضان، ألفين ليرة.
عشر ساعات من الصوم، وحرارة صيف حارقة، وانقطاع للماء والكهرباء، وتفجيرات انتحارية، ووضع اقتصادي مزر، ويبقى السؤال: هل يشبه رمضان في لبنان، مثيله في أي مكان آخر في العالم؟ لعل الأمر يبدو أشبه بفيلم هوليوودي، من طراز "الأكشن" والخيال العلمي، حيث أدوات العنف والتعذيب تطال حبكة الفيلم من بدايته إلى نهايته.