هذا المقال بقلم إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
عندما كنت أعمل بالريف في حقبة السبعينات لاحظت ظاهرة إتيان عدد من المرضى إلى بيت رجل تبدو على ملامحه التقوى وقربه من الله، ويطلبون منه الصلاة لكي يخرج من أجسادهم الجن أو إبليس. وكان هذا الرجل يجمع فريقه من الرجال يجلسون على الأرض في دائرة ويضعون المريض في المنتصف ثم يبدأون الغناء والتسبيح لله وهم يصفقون ويتمايلون، وبعد قليل يبدأ المريض الذي في المنتصف يهتز معهم ويغيب عن الوعي شيئا فشيئا، وهنا يمسك به قائد الجلسة ويبدأ في الحديث معه عن اسمه فيجيب وقد تغير صوته اسما مختلفا.
وهنا يبدأ الحديث بين القائد والجان الذي في داخل الإنسان، وأول سؤال كان هل أنت وحدك أم معك آخرون؟ فيجيب ويأتي دور السؤال الأهم كيف دخلت إلى جسده، وقد لاحظت أن الردود التي تأتي من المرضى على اختلاف القصص المروية تتحدث عن صدمة عصبية، فمثلا يقول الجان أن المريض كان يعبر البحر (يقصد نهر النيل) وسقطت من يده البندقية فمال لكي يلتقطها إلا أن المركب مال بشدة وكاد أن يغرق فدخلنا جسده وأنقذناه، وأخرى قالت إنها عادت متعبة من الغيط (الحقل) ونامت فوق الفرن وجاء زوجها بعد أن نامت بعمق وضربها بقسوة فوقعت على الأرض ونحن قد استقبلناها حيث وقعت علينا.
وهنا يبدأ الشيخ الجليل في الحديث بعنف مع الجان أو إبليس ويأمره بالخروج من جسد الضحية، فيرفض وبعد قراءة بعض التمائم والآيات المقدسة يخضع إبليس ويطلب الخروج من عين الضحية فيرفض الشيخ، وتبدأ المساومة إلى أن يصل للخروج من إصبع قدمه فيأمره أن يضرب بقدمه ثلاث مرات على الارض كعلامة لخروجه، ويتم ذلك، وهنا يوجه الشيخ الكلام للرجل عن اسمه فإذا قال اسمه الحقيقي يقول له مبروك وتفرح العائلة وإذا لم يقل اسمه الحقيقي تعود الدورة ثانية.
وقد لاحظت من هذه الخبرة أن هؤلاء المرضى يعودون ثانية بعد فترة فيسألهم الشيخ لماذا عدتم فيقولون ونحن خارجون من البلدة وجدناهم (يقصد العفاريت أو الأبالسة) في طريقنا فلبسونا مرة أخرى وكان بعض المرضى يتحدثون عن زواج بينهم وبين الجن وكنت أتحدث إلى أهالي المرضى وأشرح لهم أن ما يعانونه هو مرض عصبي ونفسي ويجب الذهاب إلى الطبيب فيقولون إنهم فقراء وليس لديهم المال الكافي لذلك.
وفي إحدى مرات عودتي إلى القاهرة شاهدت برنامج نادي السينما على القناة الأولى تقديم درية شرف الدين، وكان يعرض فيلما عالميا كل أسبوع ويستضيف متخصصاً للتعليق عليه. وكان الفيلم يحكي عن قصة واقعية لفتاة تدعى " إيفا " وهي فتاة صغيرة كانت تحب جدتها حبا جما وعندما ماتت الجدة أصرت الأم أن تقوم إيفا بتقبيل جدتها فأصيبت بصدمة عصبية والنتيجة أنها أصبحت ثلاث شخصيات متداخلة، وقد حاول رجال الدين إخراج إبليس منها بلا فائدة ثم بدأت العلاج الطبي ونجح العلاج في شفائها وشخص ضيف البرنامج الأمر بأنه مرض(الفصام).
في ذات الوقت قرأت حديثا في مجلة المصور مع أستاذ للهندسة الوراثية ذهب بزوجته إلى حلقة زار لإخراج الجان من جسدها لأنها تعاني من نوبات صرعية، وعندما سألته الصحفية كيف يفعل ذلك وهو أستاذ جامعي أجاب إن الهندسة الوراثية (أكل عيش) لكن في بلدنا علمونا أن هذه الظاهرة تعنى وجود جان في جسد زوجتي!!
ومن تأملي في الحالات التي رأيتها توصلت الى ما يلى رغم عدم تخصصي: أولا، أن هذه الأمراض مرتبطة باضطرابات نفسية وعصبية، وثانيا، أن الكائنات مثل الجن أو إبليس هي كائنات هلامية أو روحية فكيف تسكن الجسد المادي؟ وكيف تتحدث كالبشر؟ هذا فضلا عن كيف تتزوج من البشر؟ وثالثا، أن الذي يلبسهم إبليس أو الجان أناساً ضعفاء جبناء بحيث يمكن أن يخيفهم طفل صغير والمفروض العكس لأن المعروف أن ابليس قوي شرير فمن الذى يمكن أن نقول أنه متحالف مع ابليس، هل هم قتلة الاطفال مثل نتنياهو وأبو بكر البغدادى وغيرهم، أم أولئك المرضى المساكين الذين عندما يصرخ فيهم المعالج يرتعشون ويستسلمون فهم في منتهى ضعف الإرادة والقوة الجسدية، ثم أخيرا كيف يضيع إبليس وقته مع اشخاص بهذه الصورة بدلاً من استثماره مع نصاب أو عاهرة أو جاسوساً.
في النهاية أقول أن كل ظاهرة حيرت الإنسان، مثل خسوف القمر وكسوف الشمس والزلازل والبراكين والأمراض المستعصية، كان الإنسان يحيلها إلى قوى خفية وإلى الجان وإبليس. وكلما اكتشف الأسباب الحقيقية لها شطبها من "لستة" القوى الخفية وتعامل معها بالقوى الظاهرة "العلم والتكنولوجيا" ولقد حاول صانعو فيلم "الفيل الأزرق" وعنوانه واضح، فالفيل حيوان موجود لكن الفيل الأزرق غير موجود (خيالي)، والمعنى هنا الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال وعندما ينهار هذا الفاصل في ذهن الإنسان ينقسم. والفيلم محاولة جادة في عرضه العلاج بالخرافة وانتصاره للعلم، لكن الناس في بلادنا يريدون كلاما مباشرا يفهمونه وإن كان هذا ليس دور الفن -كما يقول جهابذته- لكن فيلم الأنس والجن لعادل إمام و يسرا الذي كان مباشراً ومفهوماً وبسيطا صب في النهاية في ترسيخ الخرافة وهذه هي الكارثة والمعضلة التي نحتاج من أهل الفن أن يجدوا لها حلاً.