كاتب هذا المقال هو الكاتب، محمد المنشاوي، وما يرد فيه من آراء يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN
(CNN)-- قبل عامين من انتهاء القرن الماضي، وأثناء دراستي الجامعية في ولاية أوهايو، ذهبت لزيارة العاصمة الأمريكية في ليلة خريف دافئة. وأثناء التمشي خارج أسوار البيت الأبيض كانت الموسيقي تملأ المكان مخترقة كل الحواجز الأمنية لتسمعني صوتا نسائيا قويا مصحوبا بموسيقي صاخبة بديعة ومحركة للشجون.
سألت أحد حراس البيت الأبيض عن الصخب والموسيقى القادمة من أهم مركز لصنع القرار في العالم، فرد قائلا "الرئيس وحرمه (بيل كلينتون وهيلاري) دعوا أصدقائهم من فترة الدراسة الجامعية لحفل خاص تحيه مطربتهم المفضلة آريتا فرانكلين". لم أكن أعرف آريتا من قبل إلا من خلال أغنية وحيدة أتذكرها من أيام المرحلة الثانوية غنتها دويتو مع جورج مايكل اسمها "أعرف أنك كنت تنتظرني"، إلا أنني قررت منذ تلك اللحظة التعرف على هذه المطربة مدفوعا بما يكنه لها آل كلينتون من كل هذه المحبة. اشتريت لاحقا عددا من أسطواناتها، قرأت عنها واصبحت أحد أعضاء نادي المعجبين بها، ونويت أن أذهب لمشاهدتها في أي حفلة غنائية يمكنني من خلالها أن أشاهدها وجها لوجه تغني وتشدو بكلمات أغانيها التي تدعو للتمرد النسائي والمساواة العرقية، وتخرج عن نمط المألوف.
عرفت مشردا homeless أمريكي من أصول أفريقية أسمه بروس خلال إقامتي بولاية أوهايو. ورغم تشرده يعد بروس موسوعة تاريخية وموسيقية فريدة بالمعايير الأمريكية، وجمعتني ببروس صداقة تبادلنا فيها المنفعة المعرفية طالما ألتزمت بمناداته مستخدما لقب أخ Brother . ومن خلال لقاءات طويلة ممتدة تعرف بروس على الشرق الأوسط كما أعرفه، وعرف وأحب مصر بشدة من منطلق القومية الأفريقية بصورتها العميقة. شرح وعرفني بروس بأساطين الموسيقى الأمريكية التي لم يرى منها إلا موسيقى السود الأفارقة، وأعتبر ما هو دون ذلك موسيقى أوروبية بيضاء منقحة. وكثيرا ما عبر بروس عن امتعاضه من وصف البعض إلفيس بريسلي بملك الموسيقى والغناء في أمريكا. وقال إنه بالمعايير الموسيقية هناك ملك وحيد هو حي يرزق أسمه مايكل جاكسون، وأضاف، أما إذا ما أخذنا في الحسبان التاريخ والتأثير المجتمعي فلا يوجد إلا ملك واحد أسمه "بي بي كينج". كنت أعرف مايكل جاكسون وأعجب بما يمثله من ظاهرة فنية نادرة. إلا أن كلمات بروس دفعتني فورا للتعرف على ملك الموسيقى الأمريكية التاريخي من خلال الاستماع لأغانيه والقراءة عنه. ثم حضرت عام 2005 حفلا موسيقيا للملك في ولاية فيرجينيا خارج واشنطن العاصمة، وغنى الملك جالسا طول الوقت بسبب حالته الصحية وشيخوخته الظاهرة حيث كان سنه حينذاك يقترب من الثمانين، إلا أنه لم يترك جيتار ولو لوهلة.
ولدت آريتا عام 1942 وترعرعت مع موسيقى التراتيل الإنجيلية، فقد كان والدها قسا في أحد كنائس مدينة ديترويت. وتحتل آريتا فرانكلين مركزا مرموقا كمغنية استثنائية امتدت سيرتها الفنية على مدى ستة عقود. حملت أريتا معها خبرة غناء التراتيل الإنجيلية لتي أثرت على أدائهما الموسيقي، وطورت أسلوبا عاطفيا، متألقا، جريئا وقويا وخاصا بها. وكانت قوة أدائها تنقل أغانيها إلى مكان أبعد من عالم الحب والغرام إلى المجالات السياسية والاجتماعية الأوسع خاصة مع سياق أواخر الستينات من القرن العشرين، عندما كانت حركات الحقوق المدنية والقوة السوداء والحركة النسائية في أوج نشاطها. من هنا كان من الصعب تجاهل أغنياتها الداعية للثورة والتمرد النسائي في محاولة للحصول على حقوق متساوية للنساء خاصة السود منهم ممن واجهوا تحدى التهميش مرتين كونهم نساء ذوي بشرة سوداء. رغم أن آريتا فرانكلين لم تصبح شخصية سياسية، فقد قدمت بيانات سياسية واجتماعية قوية من خلال أدائها الغنائي، واطلق عليها بلا منافسة "ملكة السول Queen of Soul"
ولد كينج لأبوين مزارعين عام 1925 وعاش ليرى الموسيقى البكر التي ولدت في أحضان حقول القطن في مناطق الجنوب والتي يغني بها المزارعون السود من العبيد المعزولين عن العالم، لتصل لجمهور لا يقتصر على الأمريكيين البيض بل لكل العالم. وذكر كينج في سيرته الذاتية "أن تكون مغني بلوز فإن ذلك يشبه (أن تتحمل وطأة) كونك أسود مرتين"، في إشارة إلى التفرقة العنصرية ضد السود. وذكر كينج أنه "في الوقت الذي كانت فيه حركة الحقوق المدنية تكافح من أجل المساواة للسود كنت أشعر أنني أكافح من أجل كسب الاحترام للبلوز كموسيقى جديدة". وطور كينج نغما وموسيقى بطرق مختلفة لم يسبقه إليه أحد. ويعد كينج من أفضل من عزفوا على الجيتار في التاريخ الموسيقي.
وموسيقى البلوز، إضافة للجاز، تعد وثيقة الارتباط بالتاريخ الأمريكي وبحركة الحقوق المدنية، وتعد هذه الموسيقى من أهم إسهامات الأمريكيين في التراث الموسيقي العالمي. ويرجع أصل كلمة " بلوز "blues إلى عبارة "ممسوس بالعفاريت الزرق" أو تعني الشخص الواقع تحت سيطرة العفاريت التي تسبب الإحباط واليأس والحزن. واستخدمت موسيقى البلوز والجاز كصور للتعبير عما يجيش بصدور من شعروا بالظلم والاضطهاد خاصة في الاعوام الأولى التي عاش فيها السود عبيدا في أمريكا بعد هجرتهم القسرية إليها.
أخيرا وقبل عشرة أيام حضرت حفلا موسيقيا صاخبا للملكة آريتا فرانكلين، وسعدت بصحبة أصدقاء مصريين لم يعرفوا الملكة من قبل، وبعد الحفل تحدثت معهم سريعا عن الملك وتجربة بي بي كينج، إلا أنه وبعد أقل من يومين توفي ملك الموسيقي عن 89 عاما. نعى الرئيس الأمريكي باراك أوباما أسطورة موسيقى البلوز بي بي كينج في بيان رسمي، وقال أوباما "ربما رحل بي بي كينج، ولكنه سيظل معنا إلى الأبد، وستشهد السماء الليلة معزوفة رائعة من موسيقى البلوز".