هذا المقال بقلم سامية عايش، صحفية مستقلة تكتب عن السينما العربية المستقلة، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتبة ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
في أي عيد، كل منا يفكر بهدية يهديها للآخر. منا من يقدم عطرا أو قطعة من المجوهرات، ومنا من يفكر بالملابس، أو أدوات المنزل أو حتى باقة من الورد. هذا الأمر جزء من الطقوس السنوية التي اعتدنا أن نقوم بها من دون أن نفكر بتفاصيلها.
لكن في فلسطين، الأمر يختلف. أن تذهب لشراء هدية، وتعود بها إلى بيتك، فهذا أمر ينطوي على الكثير من التحديات والمخاطر. وهو ما قدمته المخرجة البريطانية الفلسطينية فرح النابلسي في فيلمها القصير "الهدية"، والذي استحق ترشيحا لنيل جائزة الأوسكار هذا العام.
بكل اختصار، يحكي الفيلم قصة أب وابنته يذهبان لشراء هدية لزوجته في عيد زواجهما. على الزوج المرور في رحلة الذهاب ورحلة العودة بالحواجز الإسرائيلية، والتعرض لأقسى أنواع الذل والمهانة ليتمكن في النهاية من شراء الهدية، وهي عبارة عن ثلاجة جديدة للمنزل.
سأتوقف هنا حتى لا نكشف نهاية هذا الفيلم.
24 دقيقة، هي طول الفيلم، وهي كفيلة بأن تشرح للمشاهد المعاناة التي يعانيها الفلسطينيون في حياتهم، سواء كانوا عمالا أو أشخاصا عاديين. بداية الفيلم، تقدم لنا البطل، يوسف، والذي يؤدي دوره صالح بكري، وهو يفترش الأرض قرب الجدار العازل، على قطعة من الورق المقوى بانتظار فتح المعبر ليتجه إلى إسرائيل مع باقي العمال. الجدار أصبح رمزا للسجن والقيد، لا يمكن أن تخطئه العين في كل فيلم فلسطيني.
ننتقل بعدها إلى السجن الجماعي، عند انضمام يوسف إلى باقي العمال الفلسطينيين على الحاجز، ووقوفه بين الأعداد الكبيرة، التي بالكاد تستطيع التحرك، حتى أن بعضهم تسلق ممر الحاجز وبدأ يمشي على حفته العليا. مشهد آخر يذكرنا بالحبس والقيد، في ظل الاجراءات التي تحد من حرية المرء في التنقل والحركة.
مشهدان في البداية كانا كافيين ليضعا المشاهد في قلب المعاناة. وهذا هو أجمل ما في فيلم فرح النابلسي، التي شاركت في كتابته مع هند شوفاني: لا داعي للإطالة، والحوارات المملة، والمشاهد غير المنطقية، إذ أن وجه يوسف بين كل تلك الوجوه كان كافيا ليقدم لنا شكل يومه منذ بدايته.
ننتقل بعدها إلى أجواء أخرى: أجواء العائلة، وحميمية المنزل. يوسف مع زوجته وابنته ياسمين. حوارات قصيرة بين أبطالنا تخبرنا أن الأب وابنته على وشك البدء برحلة لشراء هدية للأم في ذكرى زواجهما. مع بداية هذه الرحلة، تعود معاناة الأب مرة أخرى عند الحاجز الإسرائيلي.
مرة ثانية، وبرموز سريعة ومباشرة وذكية في نفس الوقت، تضع فرح النابلسي هذه المرة المعاناة الفلسطينية في سياق المعاملة الخاصة التي يحظى بها الإسرائيليون والمستوطنون، وبالتالي تصبح هذه المعاناة أقسى وأصعب.
ليسوا هم الكبار من يعانون فقط، هذا أيضا ما أراد الفيلم التركيز عليه، فجلوس ياسمين عند الحاجز بانتظار الإفراج عن أبيها، ومن ثم تبولها في بنطالها، ولاحقا اضطرارها برفقة أبيها إلى إكمال الطريق مشيا وهما يحملان هديتهما، كل هذه التفاصيل الصغيرة تقدم دلائل إضافية على المعاناة الجماعية، التي لم يستثن منها الصغار.
تحذير: السطور التالي سيكون فيها بعض الكشف عن نهاية الفيلم، يمكنكم التوقف هنا إن لم تشاهدوا الفيلم بعد.
هذه المشاهد، التي تحوي كل هذا الظلم، تراكمت أمامنا لتقدم نموذجا عن حياة يوسف وعائلته بشكل يومي، وأدت بطبيعة الحال إلى انفجار يوسف في وجه الجندي في طريق العودة إلى المنزل عندما منعه أولا من الدخول عبر الحاجز، ومن ثم المشي مع ثلاجته وابنته في الطريق المخصص للمستوطنين، وهذا أدنى رد فعل على ما يمكن أن يقوم به أي شخص في موقفه.
المفاجأة قدمتها الصغيرة ياسمين، عندما رفضت أن تنصاع للجندي الإسرائيلي، ودفعت الثلاجة ومشت على الطريق المخصص للإسرائيليين من دون أي خوف، بينما والدها يراقبها من وراء الشباك، ويقف الجنود مذهولين من فعلتها.
رأيت هذا المشهد، وأحسست أن تفكيري أصبح في مكان مختلف: أكثر جمالا وتفاؤلا. بالنسبة لي، ياسمين هي فلسطين التي لن تموت، ولن تذل.
ياسمين هي ذلك الرد في وجه من يقول إن الأجيال المقبلة ستنسى. أعتقد أن فيلم "الهدية" قدم لنا استشرافا لمستقبل شعب لن ينس ولن يستكين. ما دام هذا الجيل يشهد المعاناة ويعيشها، فستكون لديه وسائله الخاصة في الرد والتصدي وكسر هذا القيد.
فيلم" الهدية" بكل بساطة مزيج متوائم ومبدع من القصة القصيرة، والشخصيات الحقيقية، والرمزيات التي تقدم الواقع كما هو من دون أي إثارة أو تجميل، والأهم أنها تخاطب الجانب الإنساني فينا.