هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN .
بصرف النظر عن الموقف من الزعيمين داخليا وخارجيا، فإن قمة ترامب-كيم في سنغافورة ما زالت الحدث الأبرز الذي لم يتفوق عليه عالميا سوى الحدث الجاري، مونديال روسيا.
الرئيس الأميركي باغت العالم كله عندما انتقل من الوعيد بحرب ساحقة ماحقة، إلى التربيت على كتف شريكه كيم جونغ أون الزعيم الكوري الشمالي بعد التوقيع على ما سيجعل بلديهما قصة نجاح أسطوري في عالم الصداقة والشراكة.
على المستوى الشخصي وحتى الأممي، ثبت تاريخيا، أن كثيرا من العداوات تحولت إلى صداقات وشراكات، لكن المخزون الإنساني من المعرفة لم ينل من الصدمة والسطوة التي شكّلها الاختراق الأميركي للأزمة الكورية. فهل يشي ما شهدته معجزة الشرق سنغافورة من مصافحة تاريخية بين الزعيمين، باختراق مماثل لقضية القضايا في العالم والشرق الأوسط؟
ما أراه أن الاختراق مقبل لا محالة، لا بقوة البرق الصاعق ولا بصدمة الرعد الماحق وإنما آت على نحو تسونامي لا نجاة فيه إلا لمن أحسن رصد توقيته وتفادى وجهته، شدته وحجم انتشار أمواجه ورداته.
بداية هذه المقاربة وسر نجاح الاختراق تكمن في طبيعة الرجلين: ترامب رجل الأعمال صانع الصفقات مقابل كيم الدكتاتور الذي يصور نفسه على أنه القائد الملهم المعصوم المطاع. كان الخبراء والمحللون عاكفين على دراسة التصريحات ورصد الإشارات، فيما الاتصالات تنساب بسرية مطلقة بين الزعيمين عبر مايك بومبيو رجل ترامب القوي الأمين في الـCIA ومن ثم على رأس الخارجية الأميركية. من الواضح، أن مفتاح الحل كان الوصول إلى كيم، فكوريا الشمالية هي النظام والنظام هو كيم.
ترامب لم يخفِ أمنيته بتحقيق حلم من أحلام اليقظة يستحيل تحقيقه في دولة مؤسسات نظامها ديمقراطي، حيث أشار إلى طاعة الكوريين الشماليين لأوامر وتوجيهات كيم متمنيا أن تلقى توجيهاته وقرارته آذانا صاغية دون مماحكات إعلامية وسياسية.
قد تكون صفقة ترامب – كيم مغامرة أو حتى مقامرة، لكنها مضمونة النتائج من حيث إحداثها تغييرا يصعب التراجع عنه فقد وقع "التابو" أو المحظور متمثلا بلقاء الأعداء عبر المحيط الهادئ وعبر شطري الكوريتين.
ولعل أقرب اختراقات حققتها مبادرة زعيم وتجاوب آخر، كانت الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس. بصرف النظر عن النتائج حينئذ والآن، ما زالت مبادرة السادات مصدر إلهام لصانعي السلام في الشرق الأوسط والعالم.
المشكلة تكمن في أن "الربيع العربي" المزعوم المشؤوم لم يحفظ "هيبة" أي دكتاتور شرق أوسطي أو زعامة ذات هالة شرق أوسطية أو عالمية. فحتى إن أراد الرئيس الأميركي وبعقلية رجل الأعمال صناعة ما يخوض فيه الكثيرون بغير ذي علم "صفقة القرن" لا يوجد في الشرق الأوسط حاليا رجلا بمواصفات السادات أو كيم لتحقيق اختراق. لكن في الوقت نفسه، استوفت جميع الشروط الموضوعية أسباب توفير البيئة المناسبة لاقتناص اللحظة التاريخية التي عادة ما تقدح بها أذهان صانعي الصفقات الكبرى. فعلى سبيل المثال، لم يصمد اتفاق طهران النووي الذي عرف حينها ب"الميغا دييل" أو بالصفقة الكبرى، لأن شروط الإيجاب والقبول لم تكن لتحقق "زواجا كاثوليكيا"!
صفقة القرن كما يحلم بها ترامب ومؤيدوه لم يطلق عليها هذا الإسم عبثا مقابل الصفقة الكبرى أو أم الصفقات. الغاية من الصفقة المقبلة هي الديمومة والاستدامة، الهدف هو القبول والشمول بما يسقط الكثير الكثير من "تابوهات" التاريخ أولا قبل الجغرافيا. الأثر المأمول من الصفقة هو مئة عام مما يعدّ المحللون العلميون لا المعلقين المنجّمين.
بعيدا عن تفسير اليمين المسيحي المحافظ وبخاصة في أميركا لدوافع قرار ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس كعاصمة لإسرائيل، فإن القرار ما هو إلا حجر زاوية إعادة بناء المنطقة أو على الأقل إعادة تموضع أميركا من الشرق الأوسط. لم تعد أمريكا نفسها بعد ترامب ولم يبق الشرق الأوسط شرقا أوسط لا كإقليم ولا حتى كدول بما فيها إسرائيل بعد الربيع العربي أو بالأصح الخريف الشرق أوسطي. حجم القتل والتقتيل الذي شهدته المنطقة والعالم من حروب وأعمال إرهابية إجرامية مشينة، حققت شكلا من أشكال الصدمة والسطوة التي عملت على نزع القناع عن أوهام كثيرة وإعمال مبضع الجراح في فقأ عيون كثير من الدمامل التي اتخنت المنطقة جروحا وجراحا على مدى قرون.
سواء اتفقت مع دوافع وأساليب "الفوضى الخلاقة" أو اختلفت، فإن الوضع العام برمته آيل لإحدى اثنتين: إما السقوط المدوّي والاندثار وإما إعادة البناء والازدهار. وعليه فإن شريك ترامب في الشرق الأوسط سيكون من حيث المواصفات إما مقامر حاذق أو حالم واثق.. واثق بسنة التغيير وبأن البقاء للأصلح والأقدر على التأقلم.. التسونامي قادم فهل من شريك يخرج بأقل الأضرار؟