هذا المقال بقلم سلمان الأنصاري، رئيس ومؤسس لجنة شؤون العلاقات العامة السعودية الأميركية (سابراك) والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظره، ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
" لا تحدق طويلاً في الهاوية حتى لا تلتفت اليك"، مقولة تستحضرني دائماً لفيلسوف وشاعر المانيا العظيم ريدريش فيلهيلم نيتشه، خاصة حينما أستمع إلى أصوات نشاز تجتهد حد اللجوء إلى مزاعم وأكاذيب فقط لخدمة أهداف من شأنها الوصول بالعلاقات السعودية – الألمانية إلى (الهاوية)، متجاهلة تقاربا اقتصاديا وسياسيا قويا تقوده القيادة في البلدين العضوين في مجموعة العشرين، والشريكين في الحفاظ على الأمن والاسلام الاقليمي والعالمي.
يعرف كثير من الشركاء في ألمانيا أن الرياض دائماً تمد يدها بالخير للجميع، وألمانيا تحديداً لها عمق كبير في الشارع السعودي الذي ينظر باحترام كبير لقواها كافة الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية أو الثقافية، كما يحظى قاداتها بتقدير واسع على مستوى النخب وصانع القرار في المملكة، إلا أن بعض الانحياز لدى بعض الساسة في ألمانيا تجاه مواقف غير مبنية على حقائق دامغة يمثل تهديدا للعلاقات بين البلدين، من شأنه التأثير على مستوى هذه العلاقات سلباً وما يتبعها من جمود في التقارب بين الجانبين خاصة في المجالات الاستثمارية والاقتصادية.
لا أنكر هنا أن تصريحات السيد وزير الخارجية الألماني (آنذاك) زيجمار غابرييل في نوفمبر الماضي، حول مزاعم بضغوط سعودية على رئيس وزراء لبنان سعد الحريري للتقدم بالاستقالة أو احتجازه في الرياض والادعاء تلميحاً بتدخل المملكة في سيادة دولة أخرى على غير الحقيقة كانت صدمة كبيرة للمتابعين، خاصة وأن السيد غابرييل استند في قراراته إلى ادعاءات وأصوات إعلامية أو سياسية لا تتمتع بمصداقية كبرى، وتسعى إلى إفشال التقارب بين البلدين لبعثرة أوراق كثيرة في منطقة الشرق الأوسط لإرباك المجتمع الدولي والتشويش على واقع هذه المنطقة، وما زاد من الصدمة أنه حتى بعد اعتراف وتأكيد الحريري نفسه أن كل ما تردد في الإعلام المناهض للمملكة العربية السعودية واختلاق واقعة احتجازه والضغط عليه للاستقالة هي محض خيال وأخبار كاذبة وغير حقيقية، لم يثر السيد غابرييل الضجة ذاتها الذي افتعلها وهو يضع المملكة في مرمى سهامه، ولم يفكر ولو للحظة في الاعتذار صراحة كرجل دولة يعي خطورة التصريحات التي تمس السياسات الخارجية للدول الحليفة والشقيقة.
إشكالية أخرى في الصورة الذهنية لبرلين تجاه دولة مثل إيران والانحياز غير الواقعي لسياستها التي تثير الاضطرابات في المنطقة كافة، ومن بينها تزويد ميليشيا انقلابية في اليمن بصواريخ باليتسية لضرب المدن السعودية، والتي وصلت حتى الآن إلى أكثر من 120 صاروخا، في تحد واضح لكافة المواثيق والأعراف والقوانين الدولية.
عوضاً عن ذلك، فإن ألمانيا نفسها لم تحترم ايران سيادتها وحولتها والمنظمات التابعة لها مثل (فيلق القدس) و(حزب الله) ملعباً لاستخباراتها، وليس بعيداً عن الذاكرة الألمانية ما حدث في 1992 من قيام طهران بالتورط في اغتيال أربع أكراد إيرانيين معارضين في مطعم يوناني في برلين، وأكد ذلك القضاء الألماني بحكمه الشهير في 1997 بتوقيف وزير المخابرات الإيراني آنذاك هوغارت على فليغان، بعد تأكد الأجهزة الألمانية المعنية بوقوف المرشد الأعلى للثورة الإيرانية نفسه وراء ذلك، إضافة إلى تصريحات منظمة العفو الدولية (أمنستي) عن العملية وتأكيدها أنها جزء من منظومة ومخطط استخباراتي ايراني لاغتيال المعارضين السياسيين لطهران.
ان موقفنا في المملكة من دولة مثل إيران هو حماية لمواطنينا وحماية لدول الاتحاد الاوروبي من عبث وتطرف طهران وتبنيها لخطاب فاشستي طائفي يهدف الى بعثرة أوراق الاستقرار الإقليمي والدولي، ومن ذلك القضية الشهيرة للمدعو داني طراف اللبناني الألماني، الذي قام بكل جرأة وخسة بشراء أسلحة مضادة للطائرات والدبابات لصالح عميل إيران تنظيم حزب الله، وتوظيفه لعمل إنساني لرعاية الاطفال في جمع الأموال من المواطنين الألمان لصالح أعمال إيران التخريبية، وهو ما التفتت إليه الشرطة الألمانية بذكاء، وقامت على اثر ما توفر لديها من معلومات بمداهمة مقر «مشروع الأطفال اليتامى اللبنانيين» في مدينة إسن لتأكدها أن الجمعية هي مجرد غطاء لجمع الأموال لصالح إيران وميليشياتها، والأحداث في هذا الملف مليئة بالحقائق التي يتغاضى عنها بعض الساسة في المانيا بكل أسف، حيث يعلنون أمام الرأي العام الألماني دعمهم لهذه الكيانات عبر دفاعهم المستميت عن طهران وسياساتها وميليشياتها الإرهابية النشطة في منطقتنا والكامنة والمستترة في الشارع الألماني والأوروبي في انتظار الفرصة المواتية لتنفيذ عملياتها الإرهابية متى ما توفرت لها الظروف لذلك.
لكنني اؤكد هنا أن الرياض وبرلين هما شريكان مهمان ولا مجال لانفصالهما خاصة في ظل ما تمنحه المملكة من فرص استثمارية ضخمة أمام الشركات الألمانية ليكون لها دور واضح ومؤثر في تحقيق رؤية المملكة 2030 وما تتضمنه من تحقيق أهداف منها رفع حجم الاقتصاد السعودي من المرتبة 19 إلى المراتب الـ15عالمياً، ورفع قيمة أصول صندوق الاستثمارات العامة السعودية من 600 مليار إلى ما يزيد عن 7 تريليون ريال سعودي ليكون من أكبر الصناديق على مستوى العالم، ما يعني أن فرص الشراكة واعدة للبلدين وتبشر باستقبال كثير من الشركات العالمية للمساهمة في تحقيق هذه الرؤى وضمناً الشركات الألمانية ذات الأولوية الكبرى لما تتمتع به من ثقة ومصداقية لدى صانع القرار في المملكة، وبالتالي فالعلاقة بين البلدين لا يجب أن توضع في مرمى قليلي الخبرة، لا سيما وأن ألمانيا تعد ثالث أكبر شريك للمملكة من ناحية الواردات، وتحتل الرقم 48 لجهة الصادرات، حيث بلغت قيمة الصادرات الألمانية إلى السعودية في العام الماضي فقط نحو 6.5 مليار يورو، إضافة إلى أن حجم التبادل التجاري بين السعودية وألمانيا زاد خلال العشرة أعوام الأخيرة بنسبة 83 في المائة، حيث بلغ في 2015 نحو 12.6 مليار دولار مقارنة بـ 6.9 مليار دولار في عام 2006 ، أي ما يعادل الضعف تقريباً.
المطمئن في مسار العلاقات السعودية – الألمانية هو ما يتكون لدى القيادة في البلدين من قناعة بأهميتها، وهو ما بدا خلال زيارة المستشارة الألمانية ميركيل إلى جدة ابريل الماضي، والتوقيع خلال الزيارة على ست اتفاقات تشمل تعزيز التعاون والتدريب في مجال الخدمات الشرطية، وفي قطاع النقل العام وبخاصة في خطوط المترو والسكك الحديدية التي ستقام في مدن المملكة كافة عبر شركات ألمانية، والتعاون في مجال الأمن الجوي، عوضاً عن الاتفاقات السابقة في مجال مكافحة الإرهاب والتعاون الأمني.
وشملت اتفاقات التعاون أيضاً وزارتي الدفاع في البلدين لتدريب الضباط السعوديين في الأكاديمية العسكرية الألمانية، ونقل الخبرات في هذا المجال، إضافة إلى الاتفاقات الموقعة بين الصندوق السعودي للتنمية، ووزارة التعاون الدولي الألماني في مجال التنسيق وتنفيذ مشروعات البنى التحتية والتنمية، وجميعها تعطي دلالة واضحة على أهمية هذه العلاقات في صناعة بيئات مجتمعية متقدمة وذات بعد استثماري واقتصادي يعود بالرخاء على الجانبين.
كما أن للعلاقات بين الرياض وبرلين بعد اقليمي ودولي آخر، حيث أن قوتها تؤثر إيجاباً في مجريات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، وتتجاوز حدود البلدين نحو دول أخرى في المنطقة تتأثر بقوة هذه العلاقات أو ضعفها، حيث أن البلدين محبان للسلام، ويسعيان بحزم وقوة إلى بسط الاستقرار في منطقة تسعى كثير من الدول إلى إثارة الفوضى ونشر الإرهاب فيها، الأمر الذي يدفع ثمنه أحياناً المواطن الألماني غير البعيد عن تأثيرات أفواج الهجرات غير الشرعية التي تهبط على سواحله هرباً من جحيم الحروب التي تسببت فيها أنظمة ودول ترمي بالقوانين والمواثيق الدولية كافة عرض الحائط، وتتسبب في حالة من السيولة تسعى كل من الرياض وبرلين إلى القضاء عليها والمساههمة في تجاوزها حرصاً على أمن البلدين من جهة وأمن واستقرار المنطقة من جهة أخرى.
الكرة الآن في ملعب برلين، ان كانت لدى ألمانيا نية صادقة في عودة العلاقات مع حليف مهم لها في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية، فالشرخ الدبلوماسي الذي تسبب به وزير خارجيتها السابق يحتاج الى علاج دبلوماسي من الوزير الحالي.