هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
لم يترك المتحدث بإسم الكرملين ديمتري بيسكوف مجالا للمحللين للتنظير حول تداعيات إسقاط الطائرة الروسية "إيل عشرين" بنيران المضادات السورية بتضليل إسرائيلي "متعمّد". الرد الروسي جاء بالتراجع عن تجاوب موسكو مع طلب إسرائيل قبل 5 سنوات بعدم تسليم سوريا صواريخ "إس-300".
وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أضاف ما هو أخطر وهو مركزية الدفاعات الروسية والسورية الأرضية عبر إدخال نظام رصد وتحليل دفاعي أرض-جو "حصري" للقوات الروسية إلى الجيش السوري. تلك مسألة في نظري تفوق الأولى خطورة. هي بمثابة ختم الارتباط العضوي الوظيفي بين الجيشين على أكثر الساحات الإقليمية اقترابا من المصالح الأكثر حساسية لواشنطن والناتو: إسرائيل، نفط الخليج وكل من إيران وتركيا وهما القوتان الإقليميتان – اللتان تمت استمالتهما إلى حد يقترب من التحالف مع موسكو.
يتزامن هذا القرار الاستراتيجي لا التكتيكي الروسي مع قرار نشر النسخة الأكثر تطورا وهي "إس-400" في شبه جزيرة القرم لتكتمل الرسالة أوروبيا وأميركيا، فيما تعلن موسكو أنها بصدد إتمام إنتاج الجيل الخامس من هذه الصواريخ عام2020– السنة التي ستشهد انتخابات أميركية من المرجح أن تدشن ولاية ثانية للرئيس دونالد جيه ترامب إن لم يهزم حزبه الجمهوري في انتخابات نوفمبر النصفية للكونغرس.
إسرائيل بدورها، صبّت ماء باردة على رد الفعل الروسي بكشفها عن استعدادها و"قبل 20 عاما" للتعامل مع صواريخ "إس-300"! هذا ما أكده جيمس كارافانو الباحث في معهد هيريتيدج لمراسل قناة الحرة في البنتاغون جو تابت. إسرائيل هي أيضا وعلى مدى عقود خلت مرتبطة ارتباطا عضويا ووظيفيا بالقوات الأميركية، وما التفوق الجوي الإسرائيلي المعروف تاريخيا في المنطقة إلا أحد وجوه هذا الارتباط المعلنة أو المعروفة بصيغة أدق.
المسألة باختصار، تجاوز أميركي روسي لمرحلة ميزان الرعب إلى الردع "الإيجابي" المتبادل. ما جرى في حال تكراره سيكون كارثيا ويسقط هيبة الردع لدى الطرفين معا عبر مستخدمي خيرة انتاجهما العسكري في سوق عالمية تشهد ازدحاما وتنافسا ما عاد حكرا على قطبي العالم إبان الحرب الباردة. كما وأن طبيعة حروب هذا الزمان التي ما عادت تقليدية في أي شيء، أدخلت منافسين جدد عبر بوابات حرب الاستطلاع والقرصنة. والرعب الأكبر في هذه الحرب ما زال صينيا، وإن كانت حوادث اختراق الأمن القومي المجلجلة ليست حكرا بالضرورة على الحكومات والجيوش النظامية. وجميعنا يذكر كارثة ويكيليكس من الناحية الأمنية البحتة.
في مؤتمره الصحافي الأربعاء في نيويورك، بعيد ترؤسه مجلس الأمن بصفته رئيسا للولايات المتحدة، أشار ترامب إلى توقعه انصياع طهران في نهاية المطاف لضغوطه عبر تغيير سياساتها الإقليمية خاصة في اليمن وسوريا. لم يرق للرئيس الأميركي العذر الذي قدمه جون كيري وزير الخارجية في عهد سلفه باراك حسين أوباما بأنه لم يتم طرح قضيتي سوريا واليمن في مفاوضات اتفاق إيران النووي كونهما "أكثر تعقيدا مما تسمح به المفاوضات." في المؤتمر نفسه، يرسل ترامب إشارة نادرة رحّب فيها "بالتعاون" التركي في مسألة تفادي حربا مدمرة شاملة في محافظة إدلب واستبدالها بضربات "جراحية استئصالية" لنحو 35 ألف إرهابي يختبئون خلف درع بشري من ملايين المدنيين الأبرياء. ترامب في خطابه الثاني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة كرئيس وفي مؤتمره الصحافي أيضا تحدث عن الحاجة إلى حل سياسي للحربين "الأهليتين" في كل من سوريا واليمن بحيث يكفّ الجميع عن إذكاء نيران هاتين الحربين عبر وكلائهم، مشددا على ضرورة بذل الأموال من جيران سوريا واليمن الأثرياء لإعادة اللاجئين المنكوبين إلى ديارهم.
إن المدقق بتفاصيل الصورة الكبرى للمشهد الإقليمي كله من اليمن إلى سوريا، والمفاجأة التي أعلنها ترامب الأربعاء أيضا بعيد لقائه رئيس وزراء إسرائيل "بيبي" نتانياهو حول عدم ممانعة ترامب بقيام سلام فلسطيني إسرائيلي عبر رؤية الدولتين، يرى ملامح شرق أوسط "جديد" قد ينهي ما قيل في "فوضاه الخلّاقة" ويؤسس لإقليم مستقر مزدهر تنفق فيه الأموال خلال العقود المقبلة على إعادة إعمار ما دمرته قواعد الاشتباك البالية وقواعد اللعبة البائسة لعقود خلت. ربما أدرك الجميع الآن – الأفراد والشعوب قبل الحكومات والأحزاب – أن الاستثمار في البناء والعمران أجدى من الإنفاق على التسلح والدفاع الوهمي الهلامي!