هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
ما زال هجوم "بطل الحرب والسلام" الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات مصدر تنديد وإشادة وإلهام للمهتمين بقضايا السلام. ولعل من أكثر الأسرار المثيرة حول سرية معركة العبور وغاياتها، الثقة الشخصية بين الراحلين السادات ونظيره السوري حافظ الأسد. ثقة سرعان ما انهارت بعد إفصاح السادات عن نواياه بزيارة إسرائيل وشن هجوم سلام في عقر دارها، الأمر الذي كاد أن ينتهي باعتقال السادات في دمشق وهي مشورة لم يتردد الأسد في رفضها لا لكونها مزايدة عنترية بل لكونها جديرة بالمتابعة عن بعد ما دامت مدانة.. لم لا، وقد كان الأسد الأب أول مهاجمي رفيقه السابق في معركة التحرير -السادات- وأكثرهم شراسة.
في هذه الأيام، تحل ذكرى حرب حملت كثيرا من الأسماء والدلالات، لكنها لم تغير في حقيقة الغاية منها وتداعياتها شيئا. فقد انتهت حرب العبور، أكتوبر، تشرين، رمضان، الغفران "يوم كيبور بالعبرية" انتهت بأول تطبيع، فسلام، فشراكة، فتحالف بين إسرائيل ودولة عربية، ليست أي دولة بل أكبر الدول العربية وأوزنها من الناحية الاستراتيجية والتاريخية.
ولعل من ثمار تلك الحرب، ما نعيشه في العقود والسنوات الأخيرة، فالربيع العربي المزعوم المشؤوم أسقط ورقة التوت الأخيرة عن مفاهيم وعقائد ثبت إما زيفها أو انتهاء صلاحيتها كاستحالة استمرار الدول الأبوية الرعوية التي يتصرف فيها الحاكم وحزبه وجيشه وكأنه الحاكم بأمر الله. كما انهارت أساطير وخزعبلات المزاوجة بين دولة مدنية عصرية مع نظام ثيوقراطي لا يخلط فيه الدين بالسياسة فقط، بل ويزيد الطين بلة بتجارة تلعب بكليهما.
هذا الواقع خلق -شيئا فشيئا- قوى إقليمية ودولية اخترقت دول المنطقة -حكومات وشعوبا- حتى العظم، فعاد الفرد مواطنا كان أم حاكما، إلى غريزته وفطرته الأساسية في سبيل البقاء. على هذا الأساس خرج الناس وبالآلاف لا يطالبون فقط بإسقاط نظام بل وباستجلاب كل قوى الأرض والتحالف حتى ولو مع الشيطان للخلاص من القمع والفساد.
كان الله في عون القائمين مثلا على صياغة العقيدة العسكرية "القتالية" لجيوش وميليشيات الشرق الأوسط "الجديد"، فالتناقض الصارخ مثلا جعل نظام الملالي في طهران يطلق العنان لحناجر جيشه وشعبه بشعارات مثل "الموت لأميركا ولإسرائيل" ويستجدي "الشيطان" في الالتزام باتفاق طهران النووي الذي ألغاه الرئيس الأمريكي دونالد جيه ترامب بجرة قلم.
وكما اتضح خطأ السادات القاتل في التحالف مع الإسلاميين ضد الشيوعيين والناصريين، لا يخفى على أحد ندم الأسد على اللعب بورقة التكفيريين والجهاديين والانتحاريين في دول الجوار وبخاصة العراقي واللبناني. وكما استنزفت بلاده قبل "العدو"، حرب الاستنزاف التي خطط لها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ونفذها راغبا أو مجبرا خلفه السادات، استنزفت الحرب السورية وهي حرب أهلية – دولية في آن واحد، جميع مكونات البقاء لدى سوريا كدولة وكنظام وكأسرة حاكمة.
لقد أخذ كثيرون على الرئيس السوري خلفيته العلمية – كطبيب عيون – وبيئته البريطانية إبان الشباب وبداية تأسيس حياته الأسرية الخاصة بعيدا عن العيون، حيث لم يخطر ببال أحد أن يكون اغتيال أخيه باسل الذي قصم ظهر الأسد الأب، شكلا من أشكال "معمودية النار" التي تم فيها صهر الأسد الابن الذي – اختلفت معه أو أيدته – كان صلبا في الدفاع عن الدولة لا النظام فحسب في سوريا.
فهل يفعلها الأسد الجريح المزهو بنصره على أعتى إرهاب وتدخل خارجي شهده العالم في التاريخ؟ إن انتصار الأسد الذي ما زال منقوصا ومشروطا، انتصار ما زال في رأيي مرهونا بما يليه. فسوريا الجديدة لا بد أن تكون نقيضا لكل ما أدى إلى اندلاع الأحداث "الثورة" بكل فصولها الدامية الصادمة. سوريا لم تنتصر بالشعارات وإنما بالتحالفات والتوازنات واستنهاض وتجييش القوى العلمانية والمدنية والمحبة للسلام الكارهة لمنطق الإقصار والإرهاب.
وعليه، فإن سوريا جديدة تحفظ مكونات الوطن الأم تاريخيا، ستحترم التنوع الإثني قانونيا وعمليا لا بالشعارات. وسوريا جديدة يواصل الروس دعمها غير سوريا جديدة يريدها الملالي حتما. والتناقض لا بد له من صدام أو تسوية تنتهي بتنحيتهما باعتبارهما حليفين مرحليين انتهت الحاجة إليهما إعلاء لمقولة "سوريا أولا" بدلا من أسطوانة "الصهيونية والإمبريالية العالمية". ما ذبح سوريا كان الفساد والقمع والظلامية والطائفية وليس الغرب. إن الناظر لتعليقات السوريين من شتى الاتجاهات وبخاصة على منصات التواصل الاجتماعي يرى بوضوح كم يمقت السوريون "الجدد" شعارات الماضي الفارغة.
لا أراهن بمعنى المقامرة وإنما أراهن باستقراء واستشراف على ذكاء الأسد بأن يشن هجوم سلام مباشر ومنفرد، سري أو علني على إسرائيل. حرب كهذه لا خاسر فيها بمن فيهم حلفاء النظام شريطة أن يخرج من "المولد بشيء من الحمّص"!