بشار جرار يكتب لـCNN عن لغز إخفاء الإعلامي السعودي جمال خاشقجي

الشرق الأوسط
نشر
6 دقائق قراءة
بشار جرار يكتب لـCNN عن لغز إخفاء الإعلامي السعودي جمال خاشقجي
Credit: MOHAMMED AL-SHAIKH / Stringer

هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

خاشقجي "نار على علم"، لكن لا بأس من الوقوف على محطات بارزة في حياته المهنية. جمال ينحدر من عائلة سعودية ثرية عريقة تعود أصولها إلى تركيا، حيث اكتسب جده الأكبر هذا الاسم لبراعته في صنع ملاعق الطعام التي مازالت تعرف بالعراق باسم "الخاشوقة".

جمال اسم لمع في عالم الصحافة السعودية والعربية والعالمية عبر تغطيته أخبار أسامة بن لادن والقاعدة (من الداخل وعن قرب) حيث حاز ثقة زعيم ذلك التنظيم الإرهابي وكذلك حاز ثقة قائد المخابرات السعودية ذائع الصيت الأمير تركي بن فيصل.

تولى خاشقجي قيادة محطة إعلامية لم تدم على الهواء سوى بضع ساعات حملت اسم "العرب" ولم تصمد، بعد بث أول موجز للأخبار تجاوز في عنوانه إحدى الخطوط الحمر وهي كثر "من المحيط إلى الخليج".

جمال – الجميل في طبعه وقلمه وحديثه – أصرّ حتى الرمق الأخير على النأي بنفسه عن وصم المعارضة، لكن موقفه بدأ بالتغير على الأرجح إثر حادثة اعتقالات الريتز كارلتون التي شملت رئيسه السابق الأمير الوليد بن طلال، بالإضافة إلى أنباء عن احتجاز شخصيتين عربيتين بارزتين هما "الشيخ" سعد الدين رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان وصبيح المصري رجل الأعمال الفلسطيني الأردني الشهير وكلاهما نفيا تعرضهما للاعتقال.

تراكمت الأمور حتى أسرّ خاشقجي لمعارفه أنه يخشى على نفسه الاعتقال في وطنه في هذه السن (بلغ الستين عاما بعيد انقطاع أخباره) فجاء قراره باتخاذ أميركا منفى اختياريا، سرعان ما دخلت تركيا على خط سير حياته عبر خطيبته خديجة جنكيز التي قالت إنهما كانا يستعدان لقضاء حياتهما الزوجية ما بين إسطنبول وواشنطن.

على ذمة خطيبته التي أنكرت عائلة خاشقجي أي صفة لها، فإنه كان يستشعر الخطر وائتمنها على حياته عبر التواصل فورا مع مكتب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وأحد قياديي حزبه الحاكم.

اللافت هنا أن خاشقجي المعروف بهواه "الإخواني" ودفاعه عن "الإسلام السياسي المعتدل" ونفيه مرارا ارتباطه العضوي بجماعة الإخوان المسلمين أو بتنظيمها العالمي، اختار – بحسب خطيبته – عند حدسه الصحافي باقتراب الخطر، اللجوء إلى إردوغان وليس لأميركا التي يبعد نحو ثلاث سنوات عن حيازة جنسيتها.

إن من أقدم على إخفاء خاشقجي أحد اثنين: إما من قرر إسكاته أو من قرر خلق الأزمة الراهنة أو الاختراق الحالي على الصعد الاستخبارية والسياسية والإعلامية كافة.

في الحالتين لا يمكن الحسم أو الجزم بأن السعودية هي المشتبه به الوحيد، فهناك من يقول إن ما يملكه خاشقجي من معلومات وأسرار لا يتوقف فقط عند السعودية وإنما يشمل "الإخوان" بتنظيماتهم "الحركية" وعواصم التأثير في قرارهم.

لكن السؤال المطروح: لم الآن؟ من المعروف أن كل ما في جعبة خاشقجي وأي طالب لجوء أو جنسية في أميركا يخضع لشكل من أشكال المراجعة والتدقيق الأمني، فما بالكم بشخص في حجم خاشقجي؟ وإن كان المطلوب هو إسكات خاشقجي للأبد فمن المعروف أن القدرات الأمنية لدولة أو حتى عصابة بإمكانها الاختيار بين آلاف السيناريوهات التي تبدو فيها جريمة القتل حادثة أو وفاة طبيعية.

حتى لو قلنا بالخوف من تنفيذ مؤامرة كهذه على الأراضي الأميركية، فلم الخطأ أو الحرص على إظهار الجريمة على أنها خطف أو قتل داخل القنصلية السعودية في دولة يحكمها صديق لخاشقجي؟

في المقابل، فإن الاحتمال الثاني قائم -منفردا ومجتمعا- مع الاحتمال الأول. في هذه الحالة تتحول السعودية وبخاصة ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان الذي أشاد فيه خاشقجي كإصلاحي واعد قبل أن يتحول تدريجيا إلى محذر من سياساته وممارساته، تتحول إلى الضحية الحقيقية بحيث تكون هي المستهدفة عبر إما استدراجها وتوريطها بخطف أو قتل خاشقجي أو بوضعها في مربع ضيّق لا تقوى فيه إلا على الانصياع التام في ملفات كبرى قيد الطرح، ولك أن تطلق العنان لخيالك هنا من صفقة القرن إلى احتواء إيران مرورا باليمن وسورية وأسعار النفط وصفقات السلاح.

أظن -والله أسأل أن يخيب ظني- أن خاشقجي ليس أسيرا، فمن أقدم على هذه الفعلة النكراء حتما لن يتراجع، هو شهيد ذاك العالم الهجين الذي يتداخل فيه الصحافي مع الأمني مع السياسي. قاتل خاشقجي إما رجل يفتقر إلى أبسط قواعد حرفية العمل الاستخباري والسياسي، أو جهاز استخباري مخضرم قادر على ضرب الأمور ببعضها لخلق واقع جديد يحقق مصالحه قريبة أو بعيدة المدى. وما زلت أرجح الاحتمال الأول في ضوء ما رشح من قرائن و"أدلة" على شاشات إعلام هذا الزمان.. إعلام داحس والغبراء.