هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
لأنها سابقة تاريخية، حُقّ لنا استباق الترحيب بضيف الإمارات، قداسة البابا فرانسيس إلى دول الخليج. أكتب هذه السطور من واشنطن قبل شهرين من الزيارة البابوية إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وبعد نحو ثلاث سنوات من زيارة تاريخية مماثلة قام بها خليفة بطرس الرسول المؤتمن على كنيسة السيد المسيح -بحسب الإيمان الكاثوليكي- إلى الولايات المتحدة الأمريكية. مسترجعا شريط الذاكرة، تعيدني كأردني أمريكي الذكريات أيضا إلى آخر زيارات الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني إلى الأردن عام 2000 حيث شرفت بتغطية القداس الكبير الذي أقامه القديس الراحل في أكبر وأقدم المدرجات الرياضية في الأردن في مدينة الحسين الرياضية.
ما يجمع تلك الزيارات البابوية الثلاث هو حجم الفرح والأمل الذي يبقى فتتحول المناسبة من حدث مرتقب على الروزنامة إلى ذكرى وعد وعهد وفاء على أجندة محفوظة في القلوب قبل العقول والوجدان حفظا لها من آفات النسيان والنكران.
إن الأمل المعقود على الزيارة البابوية المرتقبة يتجاوز حدود الإمارات، البلاد التي شيدها مؤسس الاتحاد ورئيسها الراحل الشيخ زايد. الزيارة تحمل معاني الوفاء لإرث راحلين عظام كيوحنا بولس الثاني والحسين وزايد في تأكيد معاني الإخاء والاعتدال والمواطنة والتسامح والعيش المشترك.
كثيرون يغبطون والبعض قد "يحسد" الإمارات على هذه الزيارة، لكنها بالتأكيد لن تكون في ميزان الربح والخسارة بالمعنى السياسي لزيارات القادة الكبار كونها زيارة "خادم" آت من آلاف الأميال من حاضرة الفاتيكان إلى حاضرة الخليج متوسطا عيدي الميلاد المجيد والقيامة العظيمة في ركنين من أقدس معاني المحبة: الخدمة والشراكة.
لست مطلعا على جدول الزيارة البابوية الذي قد يكون قيد الإعداد من قبل الطرفين، إلا أنني وبالاستناد إلى حصيلة معرفية تراكمية، لا أذيع سرا إن قلت إن ما من بند بروتوكولي على تلك الزيارة المباركة إلا وفيه ما يؤشر على هذين المعنين: الخدمة والشراكة. لعل من أبرز نشاطات الزيارة، القداس الجماعي وزيارة أي جمعية أو مؤسسة معنية بقيم المواطنة والمؤاخاة والمؤازرة الإنسانية.
نعلم أن في الإمارات المضيافة مئات الجنسيات والأديان والأعراق والطوائف والمذاهب، جميعها تعمل وتقيم تحت مظلة من القوانين والأعراف والتقاليد التي تعتبر مثالا يحتذى، على الأقل قياسا بالجوار الخليجي والإيراني والعربي والإقليمي. باستثناء الكويت والبحرين حيث هناك كنيسة وطنية يخدمها قساوسة مواطنون، فإن الحريات الدينية في الخليج تتفاوت على نحو كبير ليس بالنسبة للمواطن فقط أو حتى المقيم، وإنما بالنسبة للسائح الزائر بما في ذلك الزائر العابر "الترانزيت"!
قبل نحو عام مررت بإحدى المطارات المغربية، وأفرحتني الإشارة إلى مصلى المطار بعبارة "أماكن الصلاة والعبادة" حيث تمت مراعاة التعددية الدينية لخلق الله من المسافرين.
كلي رجاء وثقة بأن زيارة البابا فرانسيس الشجاع في المجاهرة في آرائه ومشاعره دون التفات للسجال السياسي "الإخباري" كما كان الحال قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية وتصريحه حول "الجدار الحدودي" مع المكسيك، ستترك آثارا طيبة عملية "ملموسة ومستدامة" ليس في الإمارات فحسب وإنما في الجوار كله. وكلي أمل وتفاؤل بأن يكون الاستقبال الإماراتي الأهلي والرسمي في حجم الرسالة والمكانة والزيارة، بحيث يصار إلى تجسيد معاني تلك الكلمات الثلاث إلى برامج عمل من ضمنها إطلاق حوارات متخصصة وأخرى شعبية حول الحريات المدنية والدينية وبخاصة حرية اختيار المعتقد وممارسة الشعائر في ظل القانون طبعا، فما من عاقل يرضى عن دق المسامير في الأيدي والأرجل تأكيدا لحب المسيح (كما يجري كل عام في الفلبين) أو يقبل بلطم الصدور والوجوه وتشطيبها وجلدها بالمسامير والجنازير والسيوف باسم حب الحسين وآل البيت (كما يجري في بعض الدول التي تقيم فيها غالبية أو أقلية شيعية.)
دعونا جميعا نشد على أيدي الإماراتيين تشجيعا لهم على ما هم مقدمون عليه من عمل ريادي إنساني ووطني عظيم يتمثل بتحويل زيارة "سياسية-دينية" إلى زيارة "تاريخية-حضارية" تعيد إلى الأذهان الزمن الجميل الذي استقبل فيه النجاشي الملك المؤمن المسيحي الصالح اللاجئين بدينهم إلى إفريقيا هربا من بطش ذوي القربى "العرب القرشيين والأمويين"، وزمن بولس الرسول الذي ظهر له -بحسب الإيمان المسيحي- السيد المسيح على الطريق عبر الأردن إلى دمشق فحول قلبه من مطارد مضطهد للمسيحيين إلى راع متفان في محبتهم، ذاق أقسى صنوف العذاب تعبيرا عن "خدمته" لهم باسم سيده ومخلصه وهو القائل في تعريف المحبة: المحبة تتأنّى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تقبّح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتدّ ولا تظن السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق وتحتمل كل شيء وتصدّق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء. المحبة لا تسقط أبدا..