عبدالخالق عبدالله يكتب لـCNN عن احتجاجات الجزائر: إن لم تتغير الجمهوريات العربية بإرادتها.. ستتغير بإرادة شعوبها

الشرق الأوسط
نشر
9 دقائق قراءة

هذا المقال بقلم الدكتور عبدالخالق عبدالله، مؤلف كتاب لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر وأستاذ العلوم السياسية من الإمارات، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأيه ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

الأنظار تتجه اليوم إلى الجزائر زينة البلدان، كما يحلو لأهلها تسميتها، والتي تحبس أنفاسها قبل البدء بانتخابات رئاسية حاسمة في 18 آبريل / نيسان المقبل.

فمنذ أكثر من شهرين وهناك مسيرات احتجاجية سلمية يومية، ومظاهرات مليونية أسبوعية رافضة لقرار ترشح الرئيس العاشر للجزائر عبدالعزيز بوتفليقة (82 سنة) لولاية خامسة. فعلى الرغم من تواجده في الخارج للعلاج وعدم قدرته على ممارسة مسؤولياته الرئاسية اليومية، وعدم ظهوره في العلن والحديث إلى شعبه وجهاً لوجه منذ 6 سنوات، فإن النخبة السياسية والعسكرية والمالية الحاكمة، أصرّت إصراراً مدهشاً على تقديم أوراق ترشحه بالنيابة عنه هذا الأسبوع. الجماهير الجزائرية المستاءة والمنتمية لأطياف مختلفة وفي مدن جزائرية عديدة أطلقت شعار "لا للعهدة الخامسة"، ثم بدأت ترفع هتافات لا للفساد، ولا للاستبداد ولا لاحتكار الجيش وحزب جبهة التحرير الوطنية للحكم منذ 1962. 

كانت الجزائر الجمهورية العربية الوحيدة التي نجت بنفسها من رياح التغيير المصاحبة لـ "الربيع العربي" الذي اندلع سنة 2010 وشمل 5 جمهوريات عربية، هي تونس، مصر، ليبيا، سوريا واليمن. لكن، يبدو الآن أن هذا الاستثناء الجزائري استنفذ عمره الافتراضي مع هبوب رياح التغيير على الجزائر، مما يفتح من جديد ملف الوضع السياسي البائس، والوضع المعيشي المتدهور في معظم الجمهوريات العربية التي لم تتمكن من تحقيق الحد الأدنى من الحياة الآمنة والحرة والكريمة لشعوبها على مدى أكثر من 70 سنة.

لا يوجد في العالم العربي اليوم نظام جمهوري واحد مستقر سياسيا ومزدهر تنمويا ويحظى بالقبول الشعبي. سمة عدم الاستقرار والترهل السياسي هي سمة شاملة لجميع الجمهوريات العربية دون استثناء. صحيح أن المشهد السياسي العربي في عمومه بائس وغير مستقر ومخترق من الخارج، ويتجه من سيّئ إلى أسوأ، ومن ضعف إلى أضعف أكبر، ومن اخفاق إلى اخفاق أعمق، ولا يلبي توقعات 350 مليون عربي يعيشون في ظل أنظمة سلطوية تكثر من انتهاك الحقوق وتصادر الحريات، لكن الجمهوريات العربية بشكل خاص، صغيرها وكبيرها هي الأكثر عدم استقراراً وترهلاً واختراقاً من الخارج.

البؤس المعيشي وعدم الاستقرار السياسي والاختراق من الخارج سمة عامة للجمهوريات العربية أكثر مما هي صفة للنظم الملكية الوراثية العربية. فمع بداية القرن الواحد والعشرين، دخلت 10 دول عربية جميعها من النظم الجمهورية قائمة الدول الهشة والفاشلة والمنكشفة وتتعرض للتفكك من الداخل والتفكيك من الخارج ولم تعد قادرة على تحمل مسؤولياتها الأمنية، ولا تستطيع تلبية الاحتياجات المعيشية اليومية لمواطنيها، وفقدت السيطرة على مساحات شاسعة من أراضيها.

في المقابل، فإن معظم النظم الملكية العربية، صغيرها وكبيرها، النفطية منها وغير النفطية، أفضل حالاً معيشياً، وأكثر استقراراً سياسياً، وأكثر ازدهاراً تنموياً، وأكثر انسجاماً اجتماعياً، وأكثر قدرة على التصدي للاختراق الخارجي من الجمهوريات العربية المنهكة والمجهدة والهشة. فالمغرب في وضع أفضل من الجزائر، أكبر دولة منتجة للنفط في أفريقيا، والأردن بموارده المتواضعة حتماً أفضل حالاً قياساً بجارتها سوريا التي يحكمها حزب البعث منذ 40 سنة، أما السعودية الغنية بالنفط فهي في وضع تنموي وسياسي أفضل بكثير من العراق الذي يملك احتياطي نفط يوازي الاحتياطي النفطي السعودي وربما أكثر، وحتما سلطنة عمان أفضل حالا مليون مرة قياساً بوضع جارتها اليمن التي تعاني من سيطرة جماعة الحوثي الموالية لإيران على عاصمتها صنعاء.

لقد بدأت الجمهوريات العربية بداية قوية وواعدة، وكانت لها صولاتها وجولاتها وخطابها الثوري والتقدمي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. كل ذلك انتهى بعد أن عمّ الفساد واستشرى الاستبداد وتمكّن الحزب الواحد والزعيم مدى الحياة من تفريغ النظم الجمهورية من حيويتها التي تميّزت بها عند نشأتها الأولى. كل ذلك تغيّر حيث لا يوجد بين الجمهوريات العربية نظام جمهوري عربي واحد يعتد به كنموذج في الاستقرار والازدهار.

فالعراق فقد توازنه بعد الغزو الأمريكي وهو اليوم مخترق من إيران. وسوريا تمر منذ 7 سنوات بحرب دمّرت البشر والحجر. أما ليبيا فقد تدهور وضعها السياسي وأصبحت على وشك التفكك الى 3 دويلات بعد الإطاحة بحكم القذافي الذي احتقر شعبه لأكثر من 30 سنة. وكما تعاني تونس من صعوبات ومرارات التحول الديمقراطي الذي طال بأكثر مما ينبغي له ان يطول. والسودان انقسم الى "سودانين" وأصبح يحكم حكماً عسكرياً وفق قانون الطوارئ الذي لا يعرف كيف سيستمر. واليمن يزداد فقراً ويعيش حرباً دمّرت كل ما عُمّر خلال 60 سنة وربما لن يتمكن من استعادة عافيته خلال 60 سنة قادمة. ولبنان محكوم حكماً صارماً من قبل حزب الله الذي لا يخفي ولاءه للمرشد في إيران ويدار عن قرب وعن بعد من قبل الحرس الثوري الإيراني. كما تحاول مصر استعادة عافيتها ببطء شديد بعد زلزال "الربيع العربي." أما الجزائر فقد تجاوزت نسبة البطالة فيه الى 25% وتمثل المظاهرات اليومية أكبر تحد لحزب استمر في الحكم بشكل منفرد لنحو 70 سنة.

السجل التنموي للجمهوريات العربية كما سجلها السياسي الداخلي والخارجي عاثر ومتعثر. فهي التي بشرت بالوحدة العربية وفشلت فشلاً ذريعاً في تحقيقها. الوحدة العربية أصبحت ابعد منالاً من أي وقت آخر بسبب خلافات طاحنة بين الجمهوريات العربية الداعية للوحدة العربية، كالخلاف بين حزب البعث في سوريا والعراق، وانفراط الوحدة بين سوريا ومصر وبين مصر وليبيا.

والجمهوريات العربية التي رفعت لواء الاشتراكية والتقدمية وتحقيق التنمية العربية المستقلة، فشلت بعد مرور 70 سنة في تحقيق الحد الأدنى من التنمية في أوطانها، ولم تتمكن من نشر نموذجها التقدمي عربياً بل هي اليوم معاقل للحكم الرجعي العربي غير القادر على مجاراة متطلبات العصر في الانفتاح على العالم والاستفادة من العولمة.

كذلك حملت هذه الجمهوريات لواء تحرير فلسطين لكن بعد 7 عقود لم تتمكن من تحرير شبر واحد من فلسطين المحتلة، وانهزمت في كل معركة من معاركها العسكرية مع العدو الإسرائيلي الشرس، بل خسرت مساحات شاسعة مع أوطانها واضطرت بعضها لإعلان الهدنة والاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها.

لكن البقعة السوداء بل الأكثر سوادا في سجل الجمهوريات العربية هي مصادرة الحريات، واحتقارها الإنسان. لقد برعت الجمهوريات العربية في احتقار الانسان عبر تأسيس نظم استخباراتية ودول بوليسية غارقة في السلطوية، وأصبحت مسؤولة عن تعميم نموذج حكم الحزب الواحد والفرد الواحد الأحد الذي يبقى في السلطة مدى الحياة وذهب بعضها لتوريث الحكم، كما حدث في سوريا، ولولا "الربيع العربي" لتكررت حالات التوريث السياسي في كل من مصر وليبيا واليمن وحتى تونس.

بمثل هذا السجل العاثر والمتعثر في الداخل والخارج يبدو مستقبل الجمهوريات العربية غير مطمئن، وإن لم تتغير بإرادتها الحرة، فسوف تتغير بإرادة شعوبها الحرة التي اكتوت بما فيه الكفاية من فساد واستبداد نخبها الحاكمة. الجزائر هي الآن محط الأنظار وأكبر شاهد على خروج الشعب بإرادته الحرة للتعبير عن سخطه على انسداد أفق الأمل في حياة آمنة وحرة وكريمة.

إصرار الرئيس بوتفليقة على الترشح لولاية خامسة "أشعل غضب الجزائريين" وسيدفع بالجزائر نحو "المجهول وربما الانزلاق إلى الهاوية" كما قال علي بن فليس رئيس وزراء الجزائر السابق، لكن عليه أن يواجه غضب مراكز القوة التي هددت على لسان رئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح أنه لن يسمح بعودة الجزائر إلى "سنوات الجمر".