هذا المقال بقلم بارعة الأحمر، صحافية وناشطة لبنانية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأيها ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
احتفل الثوار اللبنانيون يوم الأحد، بمرور شهر كامل على اندلاع ثورتهم في السابع عشر من أكتوبر / تشرين الأول الماضي. وتستمر المواجهة بين شعب يكفر بزعمائه ويتخلى عن تعصبه الطائفي والمناطقي ليملأ الساحات حاملاً علم بلاده بوجه السلطة التي اختبأت قرابة ثلاثة أسابيع، تراهن على تعب المتظاهرين وفقرهم ويأسهم، ثم أطلت بعض الرؤوس، لتعترف بأحقية مطالب الثوار ومشاركتها لمعاناتهم ومطالبهم، ثم لرشقهم باتهامات تتراوح بين التمويل من جهات خارجية، والعمالة لدول تستفيد من الخراب، ولتلقي عليهم مسؤولية الانزلاق نحو حرب أهلية. وكل ذلك بهدف تشتيتهم ونزع المصداقية عن أهداف تحركهم.
سقطت كل تلك التهم، وأثبت اللبنانيون أنهم ثائرون على الظلم والاستكبار وتمادي ساستهم بالسرقة والكذب. حاولت السلطة زرع الانقسام بين الثوار من خلال دعوتهم للتفاوض والحوار وفشلت أيضا.
وجاء آخر موقف رسمي للدولة من رئيس الجمهورية، فاستغرب ألا يجد الناس بين الحكام شخصا واحدا غير فاسد، قائلا "إذا كان الأمر كذلك فليهاجروا..." كلمات سقطت زيتا على النار وأضرمت الغضب.
وتأخذ هذه المواجهة، منذ بداياتها، شكلا جديدا كل يوم، وأسلوبا مختلفا لا تتوقعه الطبقة الحاكمة فيضاعف من صدمتها وارتباكها. بعد إقفال الطرق واحتلال الساحات انتقل الحراك إلى محاصرة مرافق الدولة، ثم خرج الطلاب بأعداد كبيرة فحولوها ثورة طلابية تذكر بستينيات القرن الماضي. وجاء ذلك نتيجة لتحقيق المكسب الأول وشعور اللبنانيين بطعم النصر، بعدما أعلن رئيس الحكومة سعد الحريري استقالة حكومته في اليوم الثالث عشر لما سمي في حينه بالانتفاضة، وبدا كأنهم كسروا كل الحواجز وأنهم قادرون على التقدم أكثر إلى أقصى المطالب وصولا لإسقاط النظام برمته.
إطلاق الأناشيد الوطنية والأغاني التي تغرد قوافيها "الشعب يريد إسقاط النظام" هو أمر عاطفي مؤثر وطموح مشروع للشعوب المظلومة والمهانة، إلا أن الإسقاط لا ينطبق على دولة ديمقراطية مثل لبنان، يضمن دستورها عملية انتقال السلطة من دون انقلابات، وفعليا، انطلق تغيير المنظومة الحاكمة في لبنان عبر إسقاط الحكومة في الشارع. ويفترض أن يكون كافيا لاتباع المسار الدستوري وصولا إلى انتخابات نيابية مبكرة كفيلة بإجراء عملية جراحية دقيقة لوجه السلطة البشع.
ويفترض هذا المسار الدستوري، الانتقال سريعا إلى تشكيل حكومة ترضي الشعب اللبناني الذي كرسه الدستور "مصدر كل السلطات." هذا الشعب الذي طبّق الدستور عمليا نيابة عن المجلس النيابي الذي تخلى عن مسؤوليته بسحب الثقة من حكومة رمت بالدولة نحو الانهيار. وهو بذلك أسقط عن المجلس النيابي أيضا شرعيته وحاسبه على تقاعسه وتآمره على الدولة.
ارتباك الطبقة الحاكمة يجعلها عاجزة عن اتخاذ قرارات تشكل رافعة إنقاذ لدولة شبه مفلسة، يرفض المجتمع الدولي إقراضها أموالا تغطي عجز خزينتها، بعدما اختفت مليارات الدولارات، تؤكد تقارير المنظمات الدولية لمكافحة الفساد أن سياسيين لبنانيين اختلسوها عبر التحايل على القوانين واستغلال النفوذ السياسي.
لماذا تؤخر السلطة الحلول وتماطل في تشكيل حكومة إنقاذ من خبراء اقتصاديين مستقلين لا ينتمون لأي من الأحزاب؟ ليست سابقة في الحياة السياسية اللبنانية وهي السبيل الوحيد لاستعادة ثقة المجتمع الدولي وضمان عدم سرقة الأموال المستدانة لوقف الانهيار المالي والاقتصادي.
ليس هناك من إجابة واحدة مطمئنة. فأما أن السياسيين يصرون على العودة الى مناصبهم والحفاظ على مكاسبهم وثرواتهم، ولا يقلقهم الانزلاق نحو حرب أهلية تزدهر فيها تجاراتهم وتزداد ثرواتهم، وهذه جريمة. أو أنهم فعلا خائفون، لأن شرط إنقاذ الدولة من الانهيار هو إطلاق يد القضاء للمحاسبة واستعادة الأموال المنهوبة، أي محاكمة السياسيين وسجنهم. وهم لن يجروا أنفسهم الى المحاسبة وحدهم، بل منظومة معقدة ومتشعبة، وهذه مصيبة. أم أنهم يراوغون ويتهربون من الحلول عمدا، بهدف الدفع بالدولة الى الإفلاس التام والى انهيار سياسي واقتصادي وأمني مدوٍ، يعيدون بعده قواعد اللعبة الى نقطة الصفر ليعيدوا تركيبها بحسب مصالحهم الشخصية وارتباطاتهم الاقليمية والدولية، وهذه كارثة.