هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
أرجأت الكتابة حتى أنتهي من القراءة. من الغلاف إلى الغلاف، قلبت 181 صفحة جاءت فيها "رؤية أو لعلها رؤيا" الرئيس الأميركي دونالد ترامب لطريق الفلسطينيين والإسرائيليين معا إلى السلام عبر بوابة الازدهار.
عامان من التكهنات والتسريبات حتى أعلنت خلاصة "مقترح" السلام على لساني ترامب وبنيامين نتانياهو، أطول رئيس وزراء في الخدمة كرئيس للحكومة في إسرائيل.
وكما هي العادة أو لعلها اللعنة التي حلت على كثير ممن تصدروا المجالس وتسلقوا المنابر، توالت ردود الفعل على نحو يظهر تسرعا في الحكم على الأمور فضلا عن مغالطات وأخطاء وخطايا كانت سببا فيما نحن فيه جميعا.
مازال كثيرون يخلطون بين الوهم والحلم والواقع والممكن. السياسة هي فن الممكن والاقتصاد هو في الأساس سوق البقاء فيه للأصلح. وبين هذين العالمين هناك التفاوض والإعلام. التفاوض فن وعلم ومهارة وكذلك الإعلام الذي فاق الجميع في تطور أدواته فصار بعالمه الجديد "الافتراضي" قادرا على إحداث تغييرات تراكمية وعميقة في العالم الحقيقي.
والحقيقة الأولى التي لا مفر من مواجهتها هي أن الزمن كما كان الحال دائما ليس في صالح المعنيين مباشرة بهذا الصراع الذي بلغ قرنا من الزمان. إن أكثر الرابحين والخاسرين هما الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي. مهما بلغ التعاطف أو الادعاء به من أي أطراف أخرى يبقى أقل كلفة من هذين الشعبين المتميزين بكل ما تعنيه الكلمة بشهادة العالم أجمع.
هذه ربما مقالتي الخامسة في صفقة القرن، لكنها الأولى بعد الاطلاع على فحواها. هل كان بالإمكان أحسن مما كان؟ أشك في ذلك. هل سترى النور في ظل الرفض الفلسطيني الرسمي والفصائلي والشعبي؟ قطعا لا. هل سيتم إكمال تطبيق بنودها المعلنة والضمنية على الأرض، قطعا بلى. هل ستصدق نبوءات اندلاع أعمال عنف وربما إرهاب؟ على الأرجح نعم. وأخيرا هل سيصدق ترامب "المقاول -المفاوض" قبل أن يكون رئيسا في توقعه بقبول الفلسطينيين لاحقا بعرضه؟ أقول هذه مغامرة واردة في حال تأمين ترامب تأييدا عربيا ودوليا لنهجه التفاوضي المتميز عمن سبقوه في التعامل مع أم القضايا في الشرق الأوسط.
ما أراه وفقا لمؤشرات صدرت عن عدد من الدول العربية والأوروبية إضافة إلى روسيا، أن ترامب حصل على ما يلزم لإطلاق هذه الخطة -الجديرة على الأقل بالقراءة- وستكشف الأيام أن الأمور في حقيقة الأمر قيد التنفيذ وفقا للافتة الشهيرة في عالم المقاولات: نأسف على إزعاجكم نعمل على خدمتكم!
سينبري لهذه الرؤيا مؤيدون لها ليس بالضرورة بالنتائج -وهي بحق خلافية- لكنها بصدق مادة تشكل فرصة حقيقية لإطلاق مفاوضات تحسن من إيجابياتها وتخفف من سلبياتها. صانع الصفقات قدم عرضا أوليا والجادون فقط يعلمون أن ما من صفقة تبدأ إلا بعرض أولي يقدمه من يملك زمام المبادرة. هذا هو الواقع الذي يحدث تغييرا حقيقيا، أما العالم الافتراضي الذي يحاكم الأمور بالشتائم والتندر القائم على الفذلكة والسفسطة فتلك الحالة الذهنية التي أودت بنا إلى حافة الهاوية الاجتماعية-الاقتصادية.
في عالم الثورة المعرفية والاتصالية، خفت ضجيج وبريق التصريحات العنترية وانكشف زيف أو وهن مطلقيها. لو جمعنا ملفات حال الفلسطينيين في الوطن والمهجر ومن حولهم دول الجوار بمن فيهم "الممانعين والمقاومين" ونزعنا عنها لغة الوصف البلاغي والموقف الأيدولوجي وتعاملنا معها بالأصفار والآحاد التي هي لغة الحاسوب، لو فعلنا ذلك لمرة واحدة لاتضحت الصورة الرقمية لواقعنا جميعا.
إن أردنا حقا أن نكون "الرقم الصعب" علينا أن نحسن قراءة الواقع كما هو واجتراح الحلول الواقعية الكفيلة بإحداث التغيير المطلوب.
نحن أمام مفترق طرق كبير ليس فلسطينيا وإسرائيليا فحسب وإنما الشرق الأوسط برمته. "نصف الكأس الممتلئ" يتضمن قيام دولة فلسطينية، القدس عاصمة حتى وإن كانت على جانبها الشرقي، رسم حدود لإسرائيل، تواصل إنساني حقيقي للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، فتح بيوت الله كافة أمام المؤمنين كافة في القدس الحبيبة. طوبى لصانعي السلام، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.. أدعو الله أن تكون في الاتجاه الصحيح..