هذا المقال بقلم د. عبدالخالق عبدالله، أكاديمي وأستاذ العلوم السياسية من الإمارات، والآراء الواردة أدناه، تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة رأي شبكة CNN.
يختلف تحدي وباء كورونا عن أي تحد آخر مر على دول الخليج والعالم جمعاء. كما جاءت استجابة كل من السعودية والإمارات والكويت والبحرين وقطر وعمان، لهذا الوباء الكوني القادم من الصين، مختلفة ومتميزة عن استجابة بقية دول العالم، واكثر ما ميزها هو قدرتها الفائقة على امتصاص الصدمة الأولى المتعلقة بحياة وصحة وسلامة الإنسان.
لقد تفاوت تعامل دول العالم مع هذا الوباء العابر للقارات والذي أصاب نحو 2.5 مليون شخص في 200 دولة ومنطقة وأودى بحياة نحو 170 الف شخص خلال أول ثلاثة اشهر من سنة 2020، أشد التفاوت. فدول حققت نجاحاً باهراً في احتوائه وهزيمته في وقت قياسي وخرجت بأقل قدر من الأضرار للصحة، وتبرز الصين وعدد من الدول الأسيوية، كأبرز مثال على ذلك، في حين تعثرت وارتبكت وانكشفت دول أخرى عن ضعفها في حماية مواطنيها من هذا الخطر الوجودي، وربما ابزر مثال على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية عدة.
دول الخليج أقرب الى نموذج الدول الأقل تضرراً من دول العالم الأكثر تضررا من حيث عدد الإصابات والوفيات. وكانت إدراة هذه لأزمة كورونا حاسمة والاستجابة سريعة منذ الإعلان عن اكتشاف أول إصابة بالفيروس قبل ثلاثة اشهر في الامارات بتاريخ 29 يناير 2020. فالإصابات والوفيات في دول الخليج من بين الادنى في حين أن حالات الشفاء من بين الأعلى عالميا، ليس قياسا بدول الجوار الجغرافي بل الأهم من ذلك قياساً بدول متقدمة في نظمها الطبية وبنيتها الصحية كمجموعة الدول الإسكندنافية، السويد والنرويج والدنمارك وبلجيكا وفنلندا، المعروفة بانها توفر خدمات طبية وصحية حديثة ومتكاملة علاوة على شبكة رعاية اجتماعية متطورة كل التطورـ بل هي عادة ما تتصدر في معظم مؤشرات التنمية الإنسانية والسعادة البشرية والحريات الفردية.
وما يجعل مقارنة دول مجلس التعاون الخليجي بالدول الإسكندنافية معقولة ومقبولة كونها متقاربة من حيث إجمالي عدد السكان البالغ نحو 30 مليون نسمة في المجموعتين، علاوة على تقاربهما في معظم المؤشرات الحيوية والتنموية كمعدل دخل الفرد ومتوسط عمر الفرد ومستوى التعليم وبرامج الرعاية والرفاهية الاجتماعية والتجانس الثقافي والاجتماعي والتاريخي بين دول المنظومتين. لكن الفارق في عدد الإصابات والوفيات وحالات الشفاء ضخم جدا بينهما ويميل لصالح دول مجلس التعاون الخليجي. ففي حين بلغ اجمالي الإصابات نحو 30 الف إصابة و180 وفاة في دول الخليج بلغ إجمالي الإصابات 103 الف إصابة و12 الف وفاة في الدول الإسكندنافية. في نفس السياق يلاحظ أن بلجيكا سجلت نحو 40 الف إصابة و6000 وفاة في حين سجلت السعودية نحو 10 الف إصابة و103 حالة وفاة. كما سجلت هولندا 33400 إصابة و3751 وفاة في حين سجلت الإمارات تحو 7300 إصابة و43 وفاة. كذلك هو الامر بالنسبة للسويد التي أعلنت عن نحو 15 الف إصابة و1580 وفاة في حين بلغ عدد الإصابات في قطر نحو 6000 ألف إصابة و9 وفيات. وهكذا هو الحال بالنسبة لبقية دول المجموعتين.
الخلاصة من واقع هذه البيانات ان دول الخليج بلغت مستويات متقدمة جداً في القدرات والإمكانيات والنظم الإدارية والصحية والبنية الطبية وفي سرعة الإستجابة والأخذ بخطوات استباقية وتطبيق حزمة الإجراءات الاحترازية وفق افضل المعايير العالمية، لتؤكد تفوقها على أكثر الدول تقدما في المجال الصحي والطبي.
لقد أثبتت دول الخليج من جديد أنها ليست دولا هشة تسقط في أول مواجهة مع المخاطر الخارجية والتغيرات الزلزالية والمستدات الدولية، كما أنها ليست مدنا ملحية تذوب مع أول هبة مطر كما صورها في يوم من الأيام الروائي السعودي عبدالرحمن منيف في ثلاثية مدن الملح. فلدى هذه الدول تجربة واسعة وخلطة مجربة في كيفية مواجهة الكوارث والتكيف مع الأزمات والتعامل مع التحديات والسيطرة على المخاطر حتى وإن كان الخطر فيروسا لا يرى بالعين المجردة، والخروج بأقوى مما كانت عليه لتحافظ بذلك على بقائها كدولة وطنية راسخة دأب البعض على التشكيك في بقائها واستمرار نظمها الوراثية بعد كل أزمة طاحنة.
على صعيد آخر، شتان بين كيف أدارت منظومة مجلس التعاون الخليجي معركتها مع كورونا وبين إدارة منظومة الاتحاد الأوروبي لهذه المعركة المستمرة حتى حين. مقارنة الأداء السياسي الجماعي للمنظومتين في غاية الأهمية وتصب في صالح مجلس التعاون الخليجي. فرغم الخلاف السياسي المستمر منذ عام 2017، تمكن مجلس التعاون من إدارة ازمة كورونا إدارة إيجابية لزيادة منسوب التنسيق والتقارب لمواجهة حالة طارئة وذلك على العكس من دول الإتحاد الأوروبي التي ساهم كورونا في تعميق الفجوة والتباعد فيما بينها. لذلك خرج الاتحاد الأوروبي منهكاً وضعيفاً وخاسراً، في حين برز مجلس التعاون منتصراً ومتلاحماً في مواجهة مأساة كورونا.
جاءت أزمة كورونا كفرصة ذهبية لتفعيل آليات التعاون والتنسيق الغذائي والدوائي وحتى الأمني الخليجي. فمثلا عقد خلال شهر مارس وزراء الصحة والداخلية والاقتصاد والتجارة اجتماعات افتراضية عاجلة لتنسيق الجهد الجماعي. ومن بين أهم ما نتج عن هذه الاجتماعات الوزارية الطارئة الاتفاق على تفعيل عدة لجان خليجية فنية بما فيها عقد اجتماع أسبوعي لوكلاء وزارات الصحة لتبادل الخبرات والبيانات والمعلومات. كذلك وافق وزراء الاقتصاد والتجارة على مقترح مقدم من الكويت لبناء شبكة أمن غذائي خليجي موحد يساعد على تدفق السلع والدواء والتجارة وإزالة أي عوائق تواجه انسيابها في الأحوال العادية وخلال حالات الطوارئ.
لقد أكدت دول الخليج مجدداً انها من صنف الدول المحاربة التي تتعرض للتحديات وتسعى للانتصار على كل تحد وخطر تواجهه. كما أكدت أنها من صنف الدول التي تذوب في بوتقة واحدة عند الأزمات وفي الحالات الطارئة.
جميع الشواهد تشير أن هذه الدول استطاعت امتصاص الصدمة الأولى لازمة كورونا بنجاح حيث أعطت الأولية لصحة الإنسان وسلامة المواطن والمقيم وجاءت النتائج مقنعة من تدني الإصابات والوفيات وارتفاع حالات الشفاء. والشواهد أيضا تقول أن دول مجلس التعاون ربحت معركة كورونا وخرجت منها أقوى وأفضل حالاً في حين خسر الاتحاد الأوروبي معركته مع هذا الوباء وخرج منه أضعف وأسوأ حالاً. لقد عمق كورونا من الشعور بوحدة المصير الخليجي وارتقت دوله الى مستوى لحظة الحالة الطارئة لمواجهة وبائي كوني شرس وسريع الإنتشار.
لا أحد يشك بعد اليوم في تقدم دول الخليج في جاهزيتها الطبية والصحية على أكثر الدول الأوروبية جاهزية. وسيسجل التاريخ أيضا أن وباء كورونا أعاد بعضاً من الحيوية للمشروع الاندماجي الخليجي الذي يعيش لحظته في التاريخ العربي المعاصر وأنه سيظل كذلك لفترة طويلة قادمة.