هذا المقال بقلم بارعة الأحمر، صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأيها ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
انتظر اللبنانيون بفارغ الصبر، دفاع حاكم المصرف المركزي رياض سلامة عن نفسه، علّه يفجر قنبلة سياسية تسمي المسؤولين عن الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي الذي تلهب تداعياته الشارع من جديد، من خلال مظاهرات عنيفة ومواجهات مع الجيش. لكن اللبنانيين تأكدوا مرة جديدة، أن دائرة التوازنات السياسية والمصالح المالية ممسوكة بأيد حديدية، ومقفلة بإحكام، وبأنهم يحلمون.
وجاء ترقب اللبنانيين لدفوع الحاكم، بعد شكوى رئيس الحكومة حسان دياب من "الأداء المريب لحاكم المصرف المركزي" واستيائه من تفرّد الحاكم في إصدار التعاميم، وخلل في التنسيق مع الحكومة باتخاذ إجراءات مالية ونقدية أحادية، وصولا لاتهامه بعدم تقديم الحسابات المتعلقة بالمصرف. وبلغ استياء رئيس الحكومة درجة الدفع نحو إقالة الحاكم، وهو ما اعتبره رئيس المجلس النيابي نبيه بري تجاوزا له، فدفع بوزير المال غازي وزني، المحسوب على حركة أمل (أي نبيه بري) الى التصدي له، إضافة الى انتفاض مرجعيات روحية، فسقط الطرح.
وأطل الأربعاء الحاكم ليرد على التهم، فلم يسمع منه اللبنانيون شيئا مما يأملون. التزم بهدوء وبرود، لا يتناسب مع أجواء الهلع في لبنان، حيث تدهورت العملة الوطنية بقوة وتقلصت القدرة الشرائية إلى أدناها تاريخيا.
الإطلالة الإعلامية كانت متوقعة الثلاثاء وتأجلت الى الأربعاء بعدما تردد أن اتصالات من أعلى المستويات في الدولة وضعت الحاكم تحت الضغط لعدم كشف المستور. وبدا أن الحاكم ارتضى بعدم صب الزيت على النار، تحملا للمسؤولية ربما، أو، على الأرجح بعد الحصول على ضمانات بعدم الدفع به شخصيا في أتون مشتعل يحوله الى كبش محرقة.
فهل التزم رياض سلامة بالقوانين التي تحكم موقعه كموظف كبير في الدولة وتحتم عليه حفظ أسرار الدولة؟ أم أنه يحافظ بتكتمه هذا على خط العودة ويراهن على التسويات؟ ما فعله حاكم المصرف المركزي هو تبديد اتهامات رئيس الحكومة وتسميتها "افتراء" وقال للبنانيين: "لا أخاطبكم بالعواطف بل ألتزم بالقانون وأقدم الحقائق والأرقام. لدى المصرف المركزي مجلسا مركزيا لا ينعقد في غياب مدير عام (وزارة) الاقتصاد أو مدير عام (وزارة) المال". وأضاف "التدقيق المالي يتم في ظل النظام المالي الخاص المعتمد، كما في كل المصارف المركزية في العالم، والذي يمكِن المصرف المركزي من لعب دوره في تأمين الاستقرار النقدي. لا معلومات مكتومة ولا أحادية في قرارات الإنفاق، والقول عكس ذلك هو افتراء يهدف الى تضليل الرأي العام ".
لكن سلامة خيّب، هو أيضا، آمال اللبنانيين. وبدل أن يكشف عن أسماء الجهات المسؤولة عن مكامن الهدر والفساد التي أوصلت لبنان الى الإفلاس والانهيار، أسهب في شرح آلية عمل المصرف وبرأ نفسه من تهم اللبنانيين في حقه بتمويل هدر الدولة وفسادها. وقال إن "المصرف المركزي أقرض الدولة مقابل وعود بخطة إصلاحية مالية اقتصادية لكن هذه الدولة خذلتني ولم تطبق الإصلاحات."
إلا أن ما سماه الحاكم مؤتمرا صحفيا لم يكن كذلك أبدا، حيث أنه لم يكن هناك من يسأله عن حقيقة عجزه أمام السلطة السياسية، وعن سبب استمرار مصرف لبنان بإقراض الدولة الغارقة بديون متراكمة فاقت المائة مليار دولار، ومسؤولية المقرض بالمطالبة بتنفيذ التزامات المقترض؟
رياض سلامة، كما كل مسؤول في لبنان، يدافع عن نفسه برمي المسؤولية على "مسؤول" آخر لتحويل الانظار عن مكامن الأزمة الحقيقة. وها هو يرد التهمة، ولو تلميحا، لكل أركان الدولة: يتحدث عن إقفال مجلس النواب لسنوات، فيتهم رئيس المجلس بالتسبب بشلل السلطة التشريعية. ويتحدث عن الفراغ الرئاسي، ويلمح الى تعطيل الدولة من قبل رئيس الجمهورية ميشال عون وحزب الله، من خلال منع الانتخابات الرئاسية لحين إرضاخ الجميع لتسوية رئاسية أوصلت الرئيس ميشال عون. وهو بذلك يرمي المسؤولية على رئيس المجلس النيابي ورئيس الجمهورية ويذكر اللبنانيين بمرارة السنين المهدورة وبالحاكمية السياسية المدمرة التي مارستها الطبقة السياسية على مدى عقود.
أسباب الانهيار المالي والاقتصادي سياسية إذا، في المقام الأول. سياسات عشوائية تخدم أشخاصا، ولا تصب في مصلحة استمرار الدولة، بل تثبت الزعامات الطائفية والإقطاعية دون أي اعتبار لمصلحة الدولة.
العالم بأسره يطالب الدولة اللبنانية بتنفيذ الإصلاحات ويشترط تنفيذها مقابل القروض والمساعدات. إصلاحات مالية اقتصادية إدارية قضائية اجتماعية، يدفعها مجلس النواب إلى أدراج التأجيل والنسيان. وهي اليوم أوصلت الدولة الى الانهيار. حكام يشتبكون حول توازنات مناطقية وطائفية، تؤمن مصالحهم الشخصية، فيسقطون كل المشاريع. ولذلك إنفاق بالمليارات ومديونيات ولا معامل لتوليد الكهرباء، لا بنى تحتية، لا شبكة أمان اجتماعي أو وظائفي أو غذائي أو استشفائي أو تعليمي أو زراعي أو صناعي أو بيئي، لا شيء من كل هذا. فراغ تام وما من مسؤول.
المشهد المالي والسياسي في لبنان أقرب الى السوريالية في تعقيداته. اثنان في المائة من اللبنانيين يمتلكون الثروات، أكثر من خمسين في المائة يعيشون تحت خط الفقر والبقية صارت تنتمي إلى فئة "الفقراء الجدد"، بينما تستكمل الحكومة "البحث" في خطة إصلاحية منتظرة منذ دهور.
وفي مقابل ذلك، يهاجم المنتفضون ما تطاله أيديهم. والمصارف هي الأقرب، يحرقونها ويدمرونها، ظنا منهم أنها من سرقهم. أما المكامن الحقيقة للأزمة فبعيدة المنال ومحصنة، بجدران عالية من الاسمنت.