هذا المقال بقلم بارعة الأحمر، صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأيها ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
تستمر حكومة "الخبراء" اللبنانية باستعراض "الانجازات" من دون الانكباب على معالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمالية التي تجاوزت مرحلة التسويات. وتكمن مشكلتها الرئيسية في تقديم أي عمل إداري إنجازا، يعيش لساعات معدودة، الى أن تنفجر فقاعته ويصير المشكلة بذاته.
يواجه لبنان خطر الانهيار الكامل للدولة بعد تخلفها عن سدادا المليارات من ديونها وإعلانها الإفلاس. علما أن التداعيات الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا لم تكن إلا النقطة التي فاض بها المستنقع. بعد هبوط سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار وانزلاق القدرة الشرائية للبنانيين وإقفال عدد كبير من المؤسسات التجارية والسياحية وارتفاع معدل البطالة إلى أكثر من خمسين في المائة، منذرا بالانزلاق الى الفوضى وما يرافقها من مخاطر إجتماعية وأمنية.
اللجوء الى صندوق النقد الدولي جاء وسط غبار المعارك الطاحنة بين أهل السلطة، يغسلون أيديهم ويتهمون بعضهم البعض بإفلاس الدولة. وبدأ سيل الإنجازات مع انطلاق المفاوضات، من خلال التوصيف الحكومي لواقع خسارات الدولة بالارقام، والذي اعتُبر سابقة في عمل الحكومات، لكن هذا "الإنجاز" بعينه أدى الى اندلاع الخلاف حول الأرقام.
فهل وجد مفاوضو صندوق النقد الدولي أنفسهم أمام مجموعات مختلفة من الأرقام المالية؟
فبحسب رئيس لجنة المال والموازنة النيابية النائب ابرهيم كنعان "هناك تباينات كبيرة بتقدير الخسائر والأرقام والخيارات، بين المجموعة المالية، أي مصرف لبنان وجمعية مصارف وهيئات اقتصادية والمجلس الإقتصادي والاجتماعي، وبين الحكومة الممثلة بوزارتي المال والاقتصاد." كنعان أوصى بتوحيد الأرقام، إذ "لا يمكن الاستمرار بتقدير الخسائر من قبل الحكومة بـ241 الف مليار، ومن قبل الجهات المالية الأخرى بـ100 الف مليار. هذا الموضوع يحتاج للمعالجة. فكيف يمكن التفاوض مع صندوق النقد بوجهات نظر مختلفة؟"
إلا أن هذا التفاوت يفضح الكثير ويؤشر إلى أزمة جديدة بين الحكومة والمصارف، ومنها أن تكون الأرقام مغلوطة ومموهة بسبب محاولة كلّ من تلك الجهات إخفاء الأسباب الحقيقية وراء إفلاس الدولة، أو أن الحكومة تحتسب الفوائد العالية التي جنتها المصارف من ضمن خسائر الخزينة.
لا يتوصل أركان الدولة اللبنانية الى اتفاق حول الخسارات، ولا حول المقاربات الاقتصادية، وتعجز وزارة المال ومصرف لبنان والهيئات المالية والاقتصادية عن تحديد حجم الخسارة، في ظل انعدام التنسيق بين الحكومة من جهة، والمجلس النيابي والهيئات الاقتصادية ومصرف لبنان من جهة ثانية، واستحالة إخراج الأرقام الفعلية من حسابات السلطة. وبعد الغياب المتكرر للوزراء عن اجتماعات اللجان النيابية المعنية بـ"الخطة" الاقتصادية، اضطر أحد النواب الى تذكير الحكومة بأن "المجلس النيابي يمثل الشعب اللبناني" والمطلوب الحد الأدنى من توحيد الأرقام والتنسيق بين المؤسسات الدستورية.
لايعني هذا اختلاف الرؤيا بين أهل السلطة وحسب، بل يؤكد انعدام النية، كما القدرة، على مقاربة عملية إصلاح بنيوية للدولة، لتضع حدا لهدر المال العام واستغلال النفوذ للإثراء غير المشروع وهي الشروط الأساسية للاستدانة من الصندوق، كما لسائر الجهات الأوروبية المُدينة. كما يعرقل هذا الانقسام والتخبط، تقديم الحجج التي يتطلبها إقناع الدائنين بتمويل الخطة. فعلى ماذا تراهن المنظومة المالية الاقتصادية المهيمنة على مفاصل الدولة؟ بعدما فقدت ثقة المجتمع الدولي والعربي من خلال إفلاسها الدولة اللبنانية.
الإنجاز الثاني الذي هللت له أبواق الممناعة كان تراجع حزب الله عن معارضته اللجوء لصندوق النقد الدولي والذي اعتُبر نوعا من "التقدم" لإنقاذ لبنان من شبح العصيان المدني والمجاعة.
حزب الله كان أعلن عدم ثقته بالصندوق بسبب "الهيمنة الأمريكية" تحسباً لفرض أي شروط سياسية على لبنان تنال من "سيادة أراضيه وحدوده البرية والبحرية" ، أو تؤدي الى تهديد مؤسسسات الدولة وخصخصتها. لكن الخلل الذي ظهر في الجلسات الأولية فضح النية الحقيقية وراء موقف الحزب التي تم تبريره بعدم الرغبة في وضع العصي في الدواليب وتفاديا لاتهامه بدفع الدولة الى الهاوية. وتبين أن الحزب فخخ رضاه، وربطه بايجابية المفاوضات و "من دون شروط" وهو العارف أن "الشروط" تأتي في الأولوية، ففضح نيته الحقيقية بغسل يديه وترك المفاوضين يفشلون لعلمه المسبق بعدم جدواها.
معرفة الحزب الجيدة للطرفين المفاوضين، وبتعقيدات الانقسام بين الجناحين السياسي-الاقتصادي والنقدي اللبناني، وتأجيجه لها، دفعته للسماح بالتفاوض، متوقعا سيناريو التباين والانقسام الكبير من ضمن فريق التفاوض اللبناني وعجزه عن تقديم رؤيا واضحة ومتكاملة للواقع السياسي والنقدي والمالي على طاولة الصندوق. كان الحزب يعرف أن المواجهة ستحصل، وأمام مفاوضي الصندوق. بين الحكومة التي يدافع عن خطتها الاقتصادية رئيسها ووزير المال وبين المعطيات المالية التي يقدمها مصرف لبنان والهيئات المالية. وكان يعرف أن هذه المواجهة ستوقف المفاوضات وتشعل مجلس النواب الذي يرى نفسه مهمشا، وتنتهي الى تشكيل لجان للتدقيق بالأرقام، وهذا ما حصل بالفعل. العراقيل بدأت باختلاف الارقام، وقبل بلوغ نقاط أكثر حساسية وتعقيدا، لا تحظى بإجماع لبناني، وأهمها ملف العلاقات مع سوريا، أو حتى، الأثمان المتوقعة للتغاضي عن المطالبة بعودة النازحين السوريين مقابل القروض الموعودة.
أصعب ما يمر به اللبنانيون اليوم هو البحث عن شعاع من نور. فالأحزاب السياسية تراوغ وتتحدث عن الإصلاح بشكل استعراضي، وهي في المقابل لا قدرة لها على تحمّل انهيار الدولة، لأن ذلك سيؤدي الى تقويض هيمنتها وكل ما تقاتل للحفاظ عليه منذ انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 وتدرك أنها أكلت الدجاجة التي كانت تطعمها بيضا، عبر إفلاس الخزينة وتعطيل المؤسسات الدستورية، وهي تغرق أكثر كلما حاولت الدفاع عن نفسها باتهام الآخرين الذين يتهمونها أيضا بالفساد، فيتداعى تماسكها الداخلي. وتحاول تقديم نفسها على أنها نماذج في الاستقامة، وتتوقع ردّ فعل شعبي عنيفاً بعد فقدان اللبنانيين مكانتهم الاجتماعية بسبب التفكّك الاقتصادي.
يؤكد الخبراء، أن لبنان سيكون عاجزا عن تأمين الغذاء واستيراد الوقود والأدوية خلال الأشهر المقبلة، ويكتب رئيس الحكومة حسان دياب لصحيفة "واشنطن بوست" إن "..الأمن الغذائي بات مهدّداً.." وها هي السلطة تختلف في كل شيء، حتى على طريق الخروج من جهنم، ولا تجد سبيلا للهروب من المجاعة والهجرة الجماعية. ويبدو واضحا أن حزب الله يدير لعبة خطيرة، فيترك المفاوضات تفشل من دونه ليعود منقذا ويعيد المسار الى حيث يريده أصلا، أي استعمال الاحتياطي المتبقي في مصرف لبنان، رغم الشكوك بوجود هذا الاحتياطي، والتوجه شرقا، نحو روسيا والصين وايران، عبر الانفتاح على سوريا.