هذا المقال بقلم بارعة الأحمر، صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأيها ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
أن يتّهم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الساسة اللبنانيين بخيانة شعبهم، وبالسرقة، وباستغلال المناصب العامة لمصالحهم الشخصية، ليس أمرًا عابِرًا بالإمكان تجاوزه. وأن يستنكر الساسة اللبنانيون موقف ماكرون هذا، بإطلاقهم بعض "العنتريّات" الهزيلة لهو أمر مُعيب ولا يُطمئن. الثنائي الشيعي، أمل وحزب الله، هو الوحيد الذي استدرك الموقف بالهروب إلى الأمام بعد إجهاض المبادرة الفرنسيّة، وقد تجلّى ذلك بوضوح في خطاب الرئيس نبيه برّي الأخير الذي اعترف فيه ضمنًا بإسرائيل، كما تجلّى أيضًا بتراجع الخطاب العام لحزب الله في معاداة الغرب وإسرائيل، حتّى راجَ في الأوساط اللبنانيّة إعتقادٌ شبه أكيد مفاده أنّ جلّ ما يخافه القيّمون على شيعة لبنان، هو إغضاب الراعي الأميركي والجار الإسرائيلي.
إلا أنه، وفي ظلّ هروب الثنائي إلى الأمام، يبرز سؤال خطير: من هو الجانب اللبناني الذي يفاوض اسرائيل كرما لعين ترامب وخوفا من عقوباته؟ هل هي الدولة اللبنانيّة، أم الأحزاب الشيعية بتفويض من الدولة اللبنانيّة، أم الأحزاب الشيعية باسم إيران؟
التحوّل المفاجئ لخطاب بري من "فلسطين المحتلة" الى "دولة اسرائيل"، والانحدار العامودي في خطاب "سيد المقاومة" من "تحرير القدس" والتهديد بـ "إخراج أميركا من الشرق الأوسط"، إلى البحث عن جندي اسرائيلي وحيد، للانتقام من اغتيال عنصر من حزب الله في سوريا، وإلى السكوت التام عن أي ضلوع لإسرائيل في تفجيرَيّ مرفأ بيروت وعين قانا، يدلّ على أن مكاسب اسرائيل من المفاوضات المزعومة ستكون حتمًا على حساب لبنان الدولة والشعب، وستصبّ في مصلحة المكوّن الشيعي لوحده، وبأن لبنان سيكون مرّة جديدة ضحية هذه العبثية الإيرانية-الأميركية-الإسرائيلية، بحيث لن يكون الثمن، هذه المرّة، أقلّ من زوال كيانه بعد قرن كامل من الفوضى والحروب.
الأميركي ضغط وهدّد وطالب بقدر ذراع، إلا أنّ الممانعين بقيادة الثنائي الشيعي، اندفعوا نحوه بالأمتار، حتّى تجاوزوا كل توقعاته، ويتردّد، أنّ الأميركي لم يكن يتوقّع، لا بل فوجيء، بمنسوب تجاوب رئيس مجلس النواب نبيه بري، ومن إعلانه إطلاق مفاوضات "الإطار" بهذه السرعة بعد مماطلة لسنوات، ومن تسميته إسرائيل بـ "الدولة" من دون أن يرتجف صوته أو يشعر بأي ألم.
اللبنانيون الغارقون في العتمة والافلاس يهمّهم أن يعرفوا: هل سيكون هناك تنازلات يقدّمها حزب الله لإسرائيل" حفاظًا على سلاحه، ولو الى حين؟ وماذا سيكون دور هذا السلاح بعد أن تنتفي علّة وجوده بترسيم الحدود، علما أنه من شأن هذا الترسيم، سدّ الطريق نحو تحرير القدس؟
من الصعب الإجابة على تساؤلات اللبنانيين قبل تحديد هويّة المفاوضين عن لبنان، وقبل معرفة هامش تحرّك المفاوضين، لاسيّما بعد التنازلات الجسيمة التي جرّ الثنائي الشيعي بها لبنان إلى ترسيم الحدود. لكن نتيجة مفاوضات الترسيم باتت واضحة بالنسبة لما سيحقّقه الإسرائيلي، وعليه يمكن قياس القعر الذي سيدركه بعدها اللبنانيون.
من المؤكد أنه لم يعد يناسب اسرائيل مجاورة حزب الله المسلّح بصواريخ تهدّدها، خصوصا أنّ عملية السلام في المنطقة تتسارع بشكل سلس يُشبه الأحلام، أو الكوابيس، وأنّ إسرائيل تحتاج الى سهولة في الحركة لاستخراج نفطها وغازها، ولمدّ الأنابيب لهذه الغاية بين مياهها الإقليميّة وقبرص من جهة، ومصر من جهة ثانية، في ظلّ معلومات عن أن شركات اسرائيلية التزمت إستخراج الغاز من بعض الأبار البحرية القبرصية. كلّ هذا يعني أنّ السلاح سيكون حاضرًا على طاولة مفاوضات الترسيم، فهل سيتعهد المفاوض اللبناني بإزالته؟ أم سيُقدم الضمانات بعدم تعرّضه لإسرائيل في حال بقائه، فيتحوّل من سلاح "مقاوم" الى حرس للحدود الإسرائيلية، كما هي حال الجيش السوري على خطوط الجولان منذ عقود خلت؟ إنّ أخطر ما في الأمر في حال بقاء السلاح، هو أنّ حزب الله سيكون قد خرج من المعادلة الإقليميّة، وسيصبح تفرّغه كاملاً للداخل اللبناني.
تقدم مفاوضات ترسيم الحدود، وصولا الى اتفاق، سيعيد إحياء إتفاقيّة الهدنة (1949) التي لا تزال قائمة لكن غير مطبّقة، وستكون إسرائيل قد ضمنت عدم الإعتداء عليها من داخل الأراضي اللبنانيّة، وضمنت الشق المتعلّق بأمنها في القرار 1701. لكن ماذا عن الشق المتعلّق بلبنان في هذا القرار، وبالتحديد تنفيذ القرار الدولي 1559؟ هل سيجرؤ لبنان على عدم تطبيق الـ 1559، لاسيّما أنّ ترسيم الحدود سيُسقط أمام المجتمع الدولي كل ذريعة بأنّ لإسرائيل مطامع في لبنان؟
المفاوضات ستسير بوتيرة سريعة، وستُخلط الأوراق في الداخل اللبناني سريعًا أيضًا، على وقع قرار الدولة اللبنانيّة نزع سلاح حزب الله أو عدمه. وقد تشكّل خيارات الدولة اللبنانيّة مدخلًا لحسم خارطة الشرق الأوسط الجديد وخطوطه الحمر والزرق وباقي الألوان. فإذا ما تم تطبيق الدستور اللبناني بعد تعديلات اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب، والقرارات الدوليّة بنزع كل سلاح خارج سلطة الجيش اللبناني، تكون منطقة الشرق الأوسط متّجهة فعليًّا وبسرعة نحو سلام شامل.
أما وأن لا تحترم الدولة اللبنانية دستورها وما لحقه من قرارات دولية تتعلّق بالسلاح غير الشرعي، بما فيه سلاح حزب الله، فهذا يعني السماح بإنفجار هذا السلاح في الداخل على غرار العام 1975، وسيغرق لبنان، من جديد، في فوضى داخلية وحروب، تجرّ عليه ويلات أقلّها التقسيم وأقصاها تغيير وجهه الحضاري والثقافي والاجتماعي، وربما إعلانه ولاية من الفقيه برضى المسلمين السنّة وإسرائيل.
فهل ترتكب الولايات المتّحدة، ومن خلفها العالم الحر، هذا الخطأ مرة ثانية، فتسمح بأسقاط الصيغة الفريدة للبنان كما ساهمت في إسقاط ايران الشاه؟ وهل سيقوى المسيحيون اللبنانيون على حمل السلاح مرة جديدة، أم سيكون مصيرهم عون الله؟