هذا المقال بقلم الدكتور حبيب الملا، الرئيس التنفيذي لمكتب "بيكر ماكنزي-حبيب الملا" للمحاماة في الإمارات العربية المتحدة. إن الآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
أصدر الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات عدداً من المراسيم الرئاسية بتعديل بعض القوانين منها قانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات الاتحادي.
والقوانين بشكل عام تأتي انعكاسا للتوجه العام في الدول والمجتمعات. لذلك تأتي لاحقا للتوجه الذي تحدده الدولة في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، إذ لا يمكن أن تصدر التشريعات من فراغ دون تحديد الهوية العامة لها. لذلك كنت دائما من المنادين في المجال الاقتصادي بأن تصدر التشريعات الاقتصادية متوافقة مع توجه الدولة لتبنى اقتصاد السوق، إذ لا يعقل أن تتبنى الدولة مبدأ الحرية الاقتصادية بينما تكون تشريعاتها الاقتصادية في جملتها أو في أجزاء منها عكس هذا التوجه.
وفي السنوات الأخيرة تبنت دولة الإمارات مبادئ التعايش والتسامح وتقبل الآخر بما يحقق الأمن والسلام الاجتماعيين ويعكس روح الانفتاح الذي تتحلى به، إذ تقدّم الإمارات نفسها كنموذج للدولة العصرية في المنطقة. وجاءت التعديلات الاخيرة لتعكس هذا التوجه.
ولا يمكن النظر إلى التعديلات التشريعية الأخيرة بمعزل عن مجمل التطورات والتعديلات التشريعية التي تمت مؤخرا في دولة الإمارات والتي تعكس توجها ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا واضحا.
فقد صدرت مؤخرا تشريعات أقرت آليات جديدة للإقامة للمستثمرين والمفكرين والمبدعين وأصحاب الكفاءات عبر منحهم إقامات طويلة الأجل لإضفاء الاستقرار على أوضاعهم واستقطاب الجدد منهم بما يعزز مكانة الإمارات كدولة جاذبة للاستثمار والمستثمرين. كما صدر المرسوم بقانون اتحادي رقم ٣ لسنة 2020 بتعديل بعض أحكام القانون الاتحادي رقم 17 لسنة 72 في شأن الجنسية وفتح الباب أمام إمكانية التقدم بطلبات الحصول على جنسية الإمارات وفقا لشروط معينة.
لذلك جاءت التعديلات التشريعية الأخيرة في قوانين العقوبات والأحوال الشخصية لتصب في هذا الاتجاه وتعكس هذا التوجه. فإقرار مبدأ حرية غير المواطنين للاحتكام الى القوانين التي تطبق على تصرفاتهم في شؤون الميراث والتركات من شأنه أن يحقق استقرار المصالح المالية للمستثمرين الأجانب ويعزز من جاذبية الإمارات في استقطاب هؤلاء المستثمرين وتوطين أموالهم فيها. علما بأن قانون المعاملات المدنية الإماراتى الصادر عام 1985 كان قد أقر مبدأ الاحتكام إلى الجنسية في المسائل المتعلقة بالحالة المدنية للأشخاص وأهليتهم وذلك في المواد من 10 إلى 17. وكانت المحاكم تطبق هذا المبدأ فجاءت التعديلات الاخيرة لتؤكد هذا الحق وتشدد عليه.
وهذا ما ينص عليه أيضا قانون الأحوال الشخصية الإماراتي. فقد نصت المادة الاولي من القانون على أنه تسري احكامه على مواطني دولة الامارات العربية المتحدة ما لم يكن لغير المسلمين منهم أحكام خاصة بطائفتهم وملتهم، كما لا تسري أحكامة على غير المواطنين إذا تمسك أحدهم بتطبيق قانونه.
ونظرة سريعة على ما تضمنته هذه التعديلات نجد أن فى مجال قانون العقوبات رقم 3 لسنة 1987 تضمنت المراسيم الرئاسية بعض التغييرات الرئيسية. فنصت التعديلات على أن من يستهلك أو يتعامل في الخمور في الأماكن المصرح بها بما فى ذلك المساكن وفقًا للقوانين السائدة ، لن يكون مسؤولاً، مع إعطاء كل إمارة محلية سلطة إصدار القواعد التنظيمية في هذا الشأن. وبذلك أزالت هذه التعديلات شرط الحصول على ترخيص مسبق لغير المسلمين لاقتناء الخمور ورفعت العقوبة عن هذا الفعل. وستقتصر العقوبة فقط على تناول الخمور أو تقديمها أو بيعها لشخص يقل عمره عن 21 عامًا وعلى أولئك الذين اشتروا الخمور نيابة عن شخص أقل من 21 عامًا.
في قوانين الآداب العامة، تنص التغييرات الجديدة على أن عقوبة من ارتكب أفعالاً مخلة بالآداب العامة ستكون غرامة مالية بدلاً من السجن. وأجاز القانون مبدأ المساكنة المشتركة بين غير المتزوجين وهو الأمر الذي كان يحصل فعليا على أرض الواقع. كما لن يعاقب القانون وفقًا للتغييرات الجديدة على ممارسة الجنس بالتراضي. ومع ذلك، يعاقب القانون على ممارسة الجنس بالتراضي إذا كان الضحية، ذكرا كان أم أنثى، أقل من 14 سنة أو إذا حُرمت الضحية من إرادتها بسبب صغر سنها أو جنونها أو إعاقتها العقلية أو إذا كان الجاني قريب من الدرجة الاولى للضحية أو مسؤول عن تربيته أو رعايته المعتادة أو له سلطة على الضحية القاصر. ويعاقب بالإعدام أي شخص يُدان بممارسة الجنس مع قاصر أو متخلف عقلياً.
ونصت التعديلات على رفع التجريم عن الأفعال التي لا تضر بالغير وهو توجه محمود ومن شأنه أن يخفف من وطأة القانون بفرض عقوبات على أفعال ليس من شأنها إلحاق الضرر بأحد. ومن أمثلة ذلك الانتحار. فوفقًا للتغييرات الجديدة، تُمنح المحكمة حرية التصرف في إرسال الشخص المدان بمحاولة الانتحار إلى مؤسسة علاجية بدلاً من معاقبته. ومع ذلك، فإن أي شخص يساعد شخصًا آخر بأي وسيلة على الانتحار سيعاقب بالسجن.
وينص تغيير آخر في القانون على أن الشخص لن يتحمل المسؤولية إذا ارتكب فعلًا ضارًا بشخص آخر بنية حسنة بهدف مساعدة أو إنقاذ ذلك الشخص الذي يحتاج إلى مساعدة عاجلة.
ومن باب التأكيد على خصوصية الضحية:
تم النص في قانون الإجراءات الجزائية رقم 35 لعام 1992، على تغيير جديد يلزم ضباط الضبط القضائي المفوضين بحضور مترجم إذا كان المشتبه فيه أو الشاهد لا يعرف اللغة العربية. ونص تعديل آخر على أن مأموري الضبط القضائي المفوضين لا يكشفون عن المعلومات الشخصية للضحية إلا لأولئك المعنيين في الحالات التالية:
1- ذات الطابع الجنسي مثل الاغتصاب ، الإساءة ، الفاحشة ، الدعارة.
2- أن تكون الدعوى متعلقة بسلامة قاصر جسدية أو نفسية أو عقلية أو معنوية أو استغلاله في التسول أو الجرائم الجنسية أو المواد الإباحية أو العمل في ظروف غير لائقة أو تنطوي على تهديد.
ومن أبرز ما تطرقت له التعديلات إلغاء المادة ٣٤٤ من قانون العقوبات التى كانت تخفف ما يسمى بـ "جرائم الشرف". وكانت هذه المادة تعاقب بالسجن المؤقت من فوجئ بمشاهدة زوجته أو ابنته أو أخته حال تلبسها بجريمة الزنا فقتلها أو قتل من يزني بها أو قتلهما معا في الحال. وكذلك كانت تعاقب بالسجن المؤقت الزوجة التي فوجئت بمشاهدة زوجها حال تلبسه بجريمة الزنا في مسكن الزوجية فقتلته أو قتلت من يزني بها أو قتلتهما معا في الحال. وكانت هذه المادة تعد من مواد الشرف كون عقوبتها السجن المؤقت، والسجن المؤقت عقوبة مخففة لجريمة جسيمة مثل القتل. وبحسب التعديلات الجديدة فإن هذه الجريمة ستعامل على أنها جريمة قتل وتعاقب بالمواد قانونية ذات الصلة في قانون العقوبات. وهذا تحول قانوني مهم يؤكد التزام دولة الإمارات بحماية حقوق المرأة وضمان سيادة القانون.
علما بأن التشريع الإماراتي نحى إلى المساواة بين الزوج والزوجة في هذه الحالة وذلك خلافا لبعض التشريعات العربية التي تمنح الظرف المخفف فقط في حالة تلبس الزوج زوجته في وضعية الزنا كالمادة ٢٣٧ من قانون العقوبات المصري التي تنص على أن من فاجأ زوجته حال تلبسها بالزنا وقتلها في الحال هي ومن يزني بها يعاقب بالحبس بدلا من العقوبات المعتادة.
وكذلك المادة 562 من قانون العقوبات اللبناني التي تنص على أنه يستفيد من العذر المخفّف من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة الزنى المشهود أو في حالة الجماع غير المشروع فأقدم على قتل أحدهما أو إيذائه بغير عمد. وعلي الرغم من هذه المساواة فقد ارتأى المشرع الإماراتي إلغاء الظرف المخفف في هذه الحالة بالكلية. علما أنه مع هذا الإلغاء فإن الظرف المخفف أو المعفى من العقوبة قد يظل قائما في حالة الدفع بالجنون المؤقت التي يفقد فيها الإنسان قدرته على التبصر في مثل هذه الحالة. فالتعديل ألغى الوجوب ولم يلغ التقدير ويظل الأمر متروكا لتقدير المحكمة حسب ظروف كل حالة.
وجملة القول أن هذه التعديلات تعكس التوجه الاقتصادي والثقافي والاجتماعي الذي تبنته دولة الإمارات وتمشي عليه وتهدف إلى ترسيخ التزام دولة الإمارات بتوفير بيئة تشريعية تتوافق مع تعددية الثقافات، والالتزام ببناء بيئة اجتماعية واقتصادية تنافسية وآمنة. فبعض هذه التعديلات إنما يراعى التطبيق الموجود أصلا على أرض الواقع فرفع بذلك الازدواجية بين النص والممارسة الفعلية. كما أن بعض هذه النصوص وإن لم تكن تطبق على أرض الواقع إلا أن بعض الجهات كانت تتخذها ذريعة للمس بالسمعة التي تحققها الإمارات في المحافل الدولية.