بارعة الأحمر تكتب: لبنان.. هل تسبق التسوية الانفجار أم العكس؟

الشرق الأوسط
نشر
6 دقائق قراءة

هذا المقال بقلم بارعة الأحمر، صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأيها ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

تلوح في الأفق مبادرات سياسية عربية، تسعى لإدارة الإنهيار في لبنان، من خلال التوصل الى تسوية تستنخ سابقاتها التي جمعت المتقاتلين في العام 2008 و 1989 لوقف الاشتباك. وفي انتظار اتفاق أميركي إيراني معقد جدا، تحاول بعض الدول العربية نسج صيغة مؤقتة لجمع المنظومة الحاكمة، ودعمها كجزء من الحل لفرضها مرّة أخرى على اللبنانيين الذين يعيشون الذل والفقر والمهانة نتيجة انتهاكات هذه المنظومة بالذات.

وكما في التسويات السابقة، سيكون الضوء الأخضر أميركيًّا-سعوديًّا-فرنسيًا، وستُعقد الصفقة في عاصمة عربية، حيث يُعاد توزيع المغانم والمناصب والأموال، وإحياء "ستاتيكو" النهب والتكاذب الذي استفحل ما بين "دوحة 1" عام 2008 وانتفاضة اللبنانيين التي انطلقت في 17 أكتوبر / تشرين الأول من عام 2019.

ويدور لبنان حول نفسه منذ أكثر من نصف قرن. تحكمه مجموعات "الدولة العميقة"، التي تتسلح بالمال والامتيازات وتعتمد على حصانات دولٍ أجنبيّة، وعلى حماية أجهزة عسكريّة ومخابراتيّة محليّة. تنتهج ترويع اللبنانيين وإيهامهم بانّها الطبقة التي لا يُمكن الاستغناء عنها، على الرغم من أنها تختفي في قصورها خلال الأزمات الصعاب، مستفيدة من تكديس الألقاب وجنى السرقات، تنتظر الفرصة المقبلة، تحملها إليها التسوية المُقبلة، على موجة المؤامرات المقبلة. ثم تطل برأسها حين تتلاقى المصالح الدولية على إسقاطها على مصير اللبنانيين من جديد.

لا يسمع اللبنانيون أصوات المنظومة الحاكمة لأنها تتلطى وتحتمي في أوكارها، تنتظر الضوء الأخضر وإشارات انطلاق التسوية، وستعود كما في كلّ مرّة للتآمر، من خلال احتجاز الشعب اللبناني في أنبوب العناية الفائقة مروَّضًا مخدّرًا. وهكذا تتكرر الأخطاء ويقف تاريخ لبنان في مكانه لا يتقدّم، بل يربض ويتعطل ويدخل في دوران حول ذاته، ليظن البعض إنّه يُعيد نفسه.

ومقابل ذلك، تغرق القوى المعارضة بالثرثرة على وسائل التواصل، وفي أوهام الإنتخابات وحلم التغيير من داخل المجلس النيابي، وبتحويل انفجار بيروت إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة، وباستعادة أموال خزينة الدولة المنهوبة وأموال الناس التي استولت عليها في المصارف. هم يتلهون بأمور كثيرة والمطلوب واحد: إنفجار كرامة اللبنانيين في وجه التسويات والمؤامرات وانفجار ولائهم لوطنهم في وجه مَن يحاولون النيل من الهويّة اللبنانيّة بمساعدة من في الداخل، بدءًا من النظام السوري، مرورا بأحزاب علمانيّة لا تعترف بكينونة لبنان، وصولا الى حزب الله خاتم التنظيمات الإلهية"

إستعادة صيغة التسويات في هذه المرحلة، تعني أنّ القضاء اللبناني لن يُسقِط الأقنعة عن وجوه المُجرمين، كالعادة. ولن يقوى على رفع الحصانات عن المطلوبين، لاستكمال التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت. وتعني كذلك أنه لن يُحقِّقَ لعائلات القتلى سوى المزيد من الغضب والإحباط، وسيستمر الغموض حول هذه الجريمة، ويجري التعتيم على المتسبّبين بها، أسوةً بباقي الجرائم والاغتيالات السياسية في لبنان.

توصل المبادرات العربية الى تسوية تعني أنّ لبنان سيتراجع إلى الحقبة التي أنتجت الأزمة السياسية والكارثة الاقتصادية والاجتماعية، وهي مرحلة أقل ما يُقال فيها إنّها زائفة، ساستها خونة وجبناء، يُباعون بالمال ويُشترون بالمناصب، وشعبها خامل متواطئ ينتظر حكم الأقدار.

إلا أن هذه التسويات تُناسب الأمريكيين والأوروبيين والعرب. إذ تُبعد عنهم شبح الانفجار الاجتماعي والأمني في لبنان، وتساعدهم على التنصل، ولو إلى حين، من التزاماتهم تجاه هذه الدولة، العضو في الأمم المتّحدة وجامعة الدول العربيّة، والتي ترزح تحت أثقال السلاح غير الشرعي لحزب الله، والهيمنة الإيرانيّة، ولاجئي دول الجوار.

لبنان الحلم انتهى وبات استرجاعه صعبًا. لبنان الجديد لا يزال في المختبر.

الضوء الأخضر آت، من المملكة العربيّة السعوديّة ومن أنتوني بلينكن (وزير الخارجية الأميركية) ومن صديقه جان ايف لودريان (وزير الخارجية الفرنسي) والكلّ ينتظر: الأنتلجنسيا اللبنانية المغرورة والموهومة، والأحزاب التي لم يتبقَ منها إلا الصورة والسلطة المهجورة. الكلّ يكذب على نفسه، ويصدّق التضليل. يصدق بأنّ القبول بتسوية جديدة سيُجَنب لبنان الانفجار. فهل ستسبق التسوية الانفجار أم العكس؟

لن يعرف اللبنانيون من الذي قتل أولادهم، لكنهم يعرفون جيدا من يقتل رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومة منذ نصف قرن ويعرفون وجوه من اغتال الدولة ودمرها. هم اليوم يلهثون خلف الثروات والتسويات إلى أن تحين ساعتهم، وترفع عائلات القتلى صورَ الأحباب في الشوارع والساحات، تصرخ ظلما وألما، الى جانب الفقراء، يحملون فقرهم وصدورهم العارية وحناجرهم المجروحة وصلوات الأمّهات.