هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
ثمة مصطلح فنّي يعرفه القائمون على "بروتوكول" الزيارات هو visitors log (سجل الزائرين). مجرد لمحة لما نشرته الصحافة عن زيارات أركان الإدارة الأمريكية إلى الشرق الأوسط في 10 أيام، تفيد بأن شيئا مهمًا يتم الإعداد له.
عرف من هذه الزيارات المتتابعة والمتقاطعة: محادثات أجراها الأسبوع الماضي مدير وكالة الاستخبارات المركزية وليام بيرنز في إسرائيل والأراضي الفلسطينية، بعد محادثات أجراها مع الإسرائيليين والفلسطينيين أيضًا مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، يرافقه منسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بريت ماكغورك، وقبل محادثات وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن مع المسؤولين الإسرائيليين، في الحكومة والمعارضة.
تقاطعت جولة بلينكن التي شملت مصر والأراضي الفلسطينية واتصالا بنظيره المغربي، مع جولة خاطفة ومكثفة، قام بها العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني بن الحسين بعد لقائه على نحو مفاجئ، الأسبوع الماضي في عمّان، رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو. الاستجابة للطلب الإسرائيلي "الملحّ والمتكرر" قيل إنه جاء بعد وساطة.
من استمع إلى المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده بلينكن ونتنياهو في القدس، يرى تطابق الموقفين الأمريكي والأردني على الأقل فيما يخص "عدم المس بالوضع القائم" في "الحرم الشريف-جبل الهيكل" بحسب تعريف الأمم المتحدة، و"الامتناع عن أي إجراءات أحادية لا تساعد على تحقيق رؤية الدولتين".
بلينكن عاد إلى واشنطن وكان من بين الذين التقاهم العاهل الأردني، قبل ثالث قمة يعقدها مع الرئيس جو بايدن منذ وصوله إلى البيت الأبيض، وقبل 3 أيام من خطاب "حال الاتحاد" الذي يلقيه لأول مرة بدعوة من رئيس جمهوري لمجلس النواب الأمريكي.
على اختلاف أطراف المحادثات وأمكنة انعقادها، من الواضح أنها توافقت على ضرورة "الاشتباك الإيجابي" دبلوماسيا: إما لاستدراك ما فات من فرص، أو استباقا لما قد يكون ثمن تلك الفرص الضائعة.
وإن كانت الزيارات مبرمجة أو منسقة "بروتوكوليا"، فإن الأحداث الدامية التي شهدتها القدس وجنين، بمثابة جرس إنذار يعيد الجميع إلى الواقع، بعيدا عن التصريحات الخطابية والوعود الانتخابية.
لم تكن قضية القدس "أمرا سياسيا قط بالنسبة للأردن وللهاشميين، بل هي ترتبط بهم بشكل شخصي منذ أكثر من 100 عام"، كما أكد عبدالله الثاني في كلمة ألقاها في حفل "إفطار الدعاء الوطني" الحادي والسبعين في أمريكا، والذي صار هذا العام لأول مرة، تحت قيادة الكونغرس، وليس مجموعات مسيحية خاصة (الإنجيليين).
ثمة قضايا أكبر من السياسة، تلك التي تعني الإنسانية والسلام والأمن والغذاء والمياه والهواء النظيف، قضايا العيش المشترك وتعاون الحضارات وتضافر الأديان بدلا من تصادمها وفنائها، لا قدّر الله.
في العالم والمنطقة ما يكفي من الظروف الموضوعية، لنزع فتيل الانفجار، وتعميم نماذج "مناطق خفض التصعيد"، كتلك التي نجحت فيها روسيا وأمريكا رغم خلافاتهما إزاء الأزمة السورية وملف إيران. نجاحات، كان للأردن فيها دور محوري، شهدت له الأمم المتحدة والعواصم المؤثرة.
وعلى ضوء التطورات النارية التي شهدتها أصفهان والبوكمال قرب الحدود السورية مع العراق، في خضم كل هذا الحراك الدبلوماسي، وما سبقه ورافقه من أحداث دامية في جنين والقدس، تلوح في الأفق سيناريوهات عديدة: حرب مع إيران، أو اختراق دبلوماسي مع طهران. انتفاضة ثالثة، أو اختراق يؤسس لإنجاح رؤية الدولتين. الخيار عمليا واحد: إما إعادة تجريب المجرّب بعد كل هذه الحروب والاضطرابات العنيفة والتطرف والإرهاب، وإما الكفّ عن تضييع الفرص وصنع سلام لا يخضع للمزايدات الانتخابية.
هذه هي الولاية السادسة والأخيرة لنتنياهو على الأرجح. ويشير تصريح لكبير موظفي البيت الأبيض المستقيل رون كلين، المعروف بـ"دماغ" إدارة بايدن، إلى أنه ينوي إعادة ترشيح نفسه لولاية ثانية (أخيرة). ثمة فرصة قد تكون الأخيرة أمام نتنياهو وبايدن لصنع التاريخ وتقديم ما يقنع الشريكين الأهم عمّان ورام الله في صنع سلام قابل للحياة. القضية أكبر من دولة فلسطينية تملك أسباب القيام والحياة.. القضية مستقبل إقليم برمته، وربما مستقبل هذا النظام العالمي الآخذ بالتشكل.
مازالت "99٪ من أوراق القضية بيد واشنطن" كما قال الرئيس المصري الراحل أنور السادات، في نظر كثيرين إلى يومنا هذا. لكن روسيا والصين معنيتان أيضا بأي ترتيبات سياسية أو أمنية أو اقتصادية، وهذه الأخيرة كفيلة بتذليل العقبات، وتليين المواقف الأهلية قبل الرسمية.. وإلا دخلنا في غياهب الاحتقانات والإحباطات التي لا تحمد عقباها.