هذا المقال بقلم د. عبدالخالق عبدالله، أكاديمي إماراتي وكبير الزملاء في جامعة هارفرد، والآراء الواردة أدناه، تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
شكّل افتتاح البيت الإبراهيمي في أبوظبي مادة دسمة للعديد من المقالات خلال الأسبوع الماضي من بينها مقال رشيد الخيون الذي قال فيه "تجاور مسجد وكنيسة وكنيس يهودي حدث في ظل الدولة العثمانية برسالة أن سكان الإمبراطورية مسلمون ومسيحيون ويهود، ولم يحصل جدل آنذاك مثلما يجري الجدل اليوم عن البيت الإبراهيمي بأبوظبي من المتطاولين على التسامح".
وفي ذات السياق كتب هشام علوان مقالاً عن البيت الإبراهيمي يؤكد على "أن الحوار بين الأديان هو غير الدعوة إلى وحدة الأديان، وتشييد بيت إبراهيمي يتجاور فيه مسجد وكنيسة وكنيس في بقعة واحدة هو غير الدعوة الصريحة إلى ديانة إبراهيمية تجمع اليهود والمسيحيين والمسلمين في دين مشترك واحد".
هذه المقالات هي عينة بسيطة مما قاله البعض في البيت الإبراهيمي في أسبوعه الأول. لكن هناك البعض الآخر الذي أطلق حملة شعواء ضد هذا البيت الإبراهيمي حتى قبل تأسيسه، وبالغ في التشكيك في نوايا الإمارات واتهامها دون وجه حق أنها تسعى لخلق دين جديد.
لم يحاول أحد من قبل ولن يحاول أحد من بعد أن يأتي بدين جديد، فالإسلام هو خاتم الأديان. وحتما لم يأت البيت الإبراهيمي ليدمج الإسلام والمسيحية واليهودية في دين واحد. فلا يوجد في البيت الإبراهيمي ما يوحي بتأسيس دين جديد، بل العكس من ذاك، المكان صُمم ليحترم خصوصية واستقلالية كل دين. فلكل دينه وإيمانه وكتابه وصلاته ومكان عبادته وطريقه إلى رب العالمين. هذا مكان للتحاور والتجاور بين الأديان تأكيداً لكون الإسلام دين تسامح واعتدال.
توحيد الأديان في دين واحد هو آخر هم الإمارات المنشغلة بحاضرها ومستقبلها التنموي. لكن الإمارات تبذل جهداً خاصاً وخالصاً لتعزيز التعايش والتحاور والتجاور بين الأديان. ولن تجد دولة يتجسد فيها التسامح كما يتجسد في الإمارات عل كافة المستويات. فالتعايش والتسامح بين الديانات والحضارات من ضرورات هذا الزمان بعد أن انطلقت قوى التطرف والتشدد والتزمت من عقالها في المنطقة العربية وعلى امتداد المعمورة وبلغت مستويات غير مسبوقة. من هنا قد يحقق البيت الإبراهيمي الحد الأدنى من تجاور الديانات بمحبة وسلام.
فكرة تجاور الديانات ليست بدعة من بدع هذا العصر. فقد كان معمولاً به في كل زمان دون أن يثير اعتراض أو جدل عقيم. تجاور مسجد وكنيسة وكنيس في بقعة واحدة كان قائماً في الماضي. الجديد في الأمر أن الإمارات كعادتها سباقة لإعادة الحياة لتجاور الديانات في شكله المعاصر ليرمز للسلم والسلام في زمن الغلو والتطرف الذي امتد لكل الأديان. هناك من يعادي البيت الإبراهيمي بحكم ارتباطه بالإمارات. فلو انطلق هذا المشروع في دولة أخرى غير الإمارات لما حصل مثل هذا اللغط من أعداء التسامح والتعايش والتجاور بين الديانات.
ويبدو أن البعض تناسى أن الإمارات دولة مسلمة، وأن %100 من شعبها البالغ عددهم مليون نسمة مسلمون. كما أن 76% من سكانها البالغ نحو 10 ملايين نسمة مسلمون. وفي الإمارات أكثر من 12 ألف مسجد من بينها جامع الشيخ زايد بأبوظبي الذي هو من بين أكبر الجوامع والمساجد في العالم. وسبقت الإمارات الجميع قبل ربع قرن بإطلاق جائزة دبي للقرآن الأكبر في العالم. ثم يأتي جاهل ومغرض ليزايد على الإمارات في إسلامها ويعتقد أن هدف البيت الإبراهيمي إلغاء الدين الإسلامي.
وبعيداً عن ما يتعرض له البيت الإبراهيمي من سوء فهم وتشكيك، ستستمر الإمارات في ترسيخ قيم الأخوة الإنسانية، وستواصل العمل على تجاور الأديان بحرص شديد، ومواجهة خطاب الكراهية والتضليل الذي يحمل بصمة جماعات تكفيرية عالقة في الماضي، كدواعش هذا العصر وغلاة الأمة وجماعة الاخوان التي تعاني من التشرذم حالياً.
التسامح ثابت من ثوابت الإمارات. ومشاريع الإمارات الحضارية والنهضوية المستقبلية لن تتوقف على الأرض وفي الفضاء. وأثبتت وقائع السنوات الأخيرة أن ما يحدث في الإمارات لا يبقى في الإمارات. في الإمارات الديانات تتجاور لا تتشاجر. هكذا هو أصل وفصل نموذج الإمارات التنموي الصاعد عربياً. لذلك فإن مبدأ تجاور الأديان سينتقل سريعا إلى بقية دول المنطقة الحريصة على مبدأ التسامح. وأبرز مثال على ذلك بناء مجمع التجلي الأعظم في مصر الذي سيفتتح في أبريل سنة 2024 حيث يوجد مسجد وكنيسة وكنيس جنباً إلى جنب في الوادي المقدس طوى في جنوب سيناء، وذلك على نسق البيت الإبراهيمي في أبوظبي.
لذلك عندما انكشفت عدم صحة تأسيس دين جديد، ربط البعض البيت الإبراهيمي ربطا تعسفيا بالإتفاق الإبراهيمي والتطبيع مع إسرائيل لمحاربته سياسيا بعد فشل محاربته عقائديا. محاولات تسييس البيت الإبراهيمي بعيدا عن غاياته النبيلة فاشلة سلفاً. فالبيت الابراهيمي وُقع في فبراير 2019 في حين جاء توقيع الإتفاق الإبراهيمي في سبتمبر 2021. أي أن البيت الإبراهيمي سابق للاتفاق الابراهيمي، الذي هو وليد مقايضات سياسية معقدة استمرت عدة سنوات، في حين خرج البيت الإبراهيمي من عباءة وثيقة الأخوة الانسانية، ولا علاقة له بالسياسة اطلاقاً.
جاء الإعلان عن البيت الإبراهيمي في أبوظبي بحضور علماء دين، أما الاتفاق الإبراهيمي فوُقع في واشنطن بحضور رجالات السياسة. أي ربط بينهما هو ربط خبيث وعبثي. فالتطبيع مع إسرائيل له بوصلة واحدة هي المصلحة الوطنية ولا يحتاج لغطاء ديني أو عقدي أو ايديولوجي.
فيما يستمر الحديث عن البيت الإبراهيمي، مدحاً أو قدحاً، فإن زيارة ميدانية واحدة للموقع تكفي للتأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هدف هذا البيت الحضاري الإرتقاء بالتعايش بين الأديان والتأكيد على أن التسامح قائم في الإسلام اكثر من أي دين آخر وأن تجاور الديانات يستعيد رونقه حالياً على أرض الإمارات.