هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
أخطّ هذه السطور وقد انتصف رمضان المبارك وحلّ فصحان مجيدان: اليهودي فالمسيحي. أكرس مقالتي هذه في يوم الجمعة العظيمة بحسب الكنائس التي تتبع التقويم الغربي ومنها "حرّاس الأراضي المقدّسة"، رهبان الفرنسيسكان الذي أخذوا اسمهم وخدمتهم من تعاليم القديس فرانسيس الأسيزي القائل في أحد أشهر الترانيم العالمية: اجعلني يا رب قناة سلامك.
القديس فرانسيس والسلطان الملك الكامل، الأخ الأكبر لصلاح الدين الأيوبي ما زالا في نظر الكثيرين من أرسيا قواعد حوار الأديان. لم يقتصر الحوار على الإسلام والمسيحية بل شمل اليهودية وجميع الديانات، بما في ذلك غير السماوية منها. الغاية هي أن خير الإنسان وإعمار الأرض هو غاية الخلق. و"حراسة" الأراضي المقدسة لم تكن بالسيف، بل بالرعاية والخدمة ومنها التعليمية والاجتماعية والإغاثية كما نرى حتى يومنا هذا. الحراسة والرعاية والوصاية ما هي إلا مسميات تنبع في الأساس من فهم إيمانيّ عميق يتجاوز السياسة. ثوابت أسمى وأبقى من متغيرات المصالح والمنافع، سياسية كانت أم اقتصادية.
إجلالا لهذه الأيام المباركة يهوديا ومسيحيا وإسلاميا، تصغر الذرائع التي اتخذها البعض من أي طرف كان للتصعيد وللتأزيم ولتسجيل أهداف سياسية سواء أكانت حزبية أم فصائلية. سأقتصر الحديث عن أقدس مقدسات أحفاد إبراهيم، خليل الرحمن. مهما عظمت القدس في أعين المؤمنين من الأحفاد، لن تكون أغلى ممن منحها القداسة وبارك أهلها وعشاقها، وفي ذلك بعد يتجاوز الجنسيات والأعراق والطوائف وحتى الأديان. هذه القدس، قدس الأقداس، عالمية في كل حجر وشجر وقطرة ماء ودم.. أرادها الله جامعة. تجمع بمحبة وسلام، ولا تقتل ولا تبدد ادعاء بحبّ أو ولاء أو انتماء أيا كان. ها هي القدس مرة تلو أخرى، يبدأ الصراع منها وينتهي إليها. وكأن التاريخ السياسي والعسكري لها والرسالات السماوية التي كرّمتها، لا تلقى سمعا لدى أصحاب القرار، لا بل وحتى عامة الناس -الذين بشكل أو بآخر- انتخبوا أو دعموا من بأيديهم قرار السلام والحرب، والتي إن اندلعت -لا قدر الله- لن تبقى على جبهتين شمالية (لبنان) وجنوبية (غزة). هذا التصعيد أيا كان المتسبب به، لن يبقى منعزلا عن تداعيات حرب أوكرانيا، والهجوم الأوكراني المضاد الوشيك، ولا عن توسع النفوذ الصيني بعد ضمانها اتفاقا بين الرياض وطهران، ولا عن مساعي التطبيع السوري-التركي والسوري-العربي.
وعلى غرار الحديث عن أدوار الحراسة والرعاية والوصاية، ثمة حديث بلغة أخرى عن أدوار المقاومة والممانعة والتعطيل والتسويف.. وكأن هاتين الأخيرتين امتداد لما يعرف بالتاريخ الإسلامي ب "المعطّلة والمرجئة". الوضع لا يحتمل بقاء الحال على حاله، لأن كل يوم مرشح للتدهور والانزلاق -بفعل فاعل ماكر أو غافل- إلى منحدرات الهاوية. ومنها ذاك المنحدر الذي بدا جبلا في أسطورة الميثولوجيا الإغريقية، عندما عاقب كبير الآلهة زيوس، سيسيفوس أو سيزيف على لؤمه وشره، بأن يحمل صخرة ضخمة من أسفل الجبل إلى أعلاه، حتى إن كاد الوصول إلى القمة، سقطت الصخرة من يديه وتدحرجت إلى أسفل الجبل، القاع، الحضيض.. صارت العقوبة مضرب مثل تعرف بالعبثية أو "سيزيفيّة".
جوهر ما يعرف بال "فيشيس سيركل" أو دوامة الشر، هو التزييف. هي سيزيفية بكل معنى الكلمة. عبث بالمفاهيم والافتراضات وبالتالي الخلاصات والأعمال والنتائج. عبث في كثير من الأفعال وردود الأفعال، كبعض التصريحات الاستفزازية أو الممارسات العنترية. كثير مما نحن فيه منذ أشهر، أشار إلى مخاوف اندلاع ما لا تحمد عقباه في رمضان. فلم الإصرار على توقع نتائج مختلفة رغم تكرار الإتيان بالأفعال والأقوال ذاتها؟
عند الحديث عن التهدئة والرعاية الأمريكية لها ودور دول عربية معنية أكثر من غيرها فيما تشهد الساحتان الفلسطينية والإسرائيلية، خرجت تصريحات مشككة وبعضها مزايدة وحتى معادية، وهي ككل دوامة عنف تنتهي بالسعي -شعبيا قبل رسميا- إلى تدخل أردني ومصري، للحيلولة دون خروج الأمور عن السيطرة. قرار الحرب والسلام لا يجوز أن يبقى مسلوبا من قبل من ثبت سعيهم إلى تدهور الحال لتمرير مخططات أقل ما يقال فيها إنها عبثية.. السلام المنشود يتطلبا بعثا ونهوضا بالمفهوم الروحي الأخلاقي والفكري.. عندها فقط تقوم قائمة للأراضي المقدسة وللمنطقة وللمعمورة. وهذا هو التشريف الحقيقي للقدس ولمكانتها بأن تكون منارة سلام ومرساة محبة..