هذا المقال بقلم خلف بن أحمد الحبتور، رجل أعمال إماراتي ورئيس مجلس إدارة مجموعة "الحبتور" الإماراتية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظره ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
لقد واجه العالم العربي، بتاريخه الغني وثقافاته المتنوعة، مجموعة من التحديات والمخاطر على مرّ العصور. منذ الأيام اللامعة للعصر الذهبي العربي، حين كانت المنطقة في طليعة الحضارة البشرية، إلى المشهد الجيوسياسي المعقد اليوم، تسلك منطقتنا مسارًا مليئًا بالاضطرابات.
كثيرة هي التهديدات والمؤامرات التي أحاطت بالعالم العربي منذ عصره الذهبي، من أبرزها اتفاق سايكس بيكو الذي أدى إلى تقاسم البلدان العربية بين فرنسا والمملكة المتحدة وكأنها قطع في قالب حلوى، وأعاد ترتيب حدود الشرق الأوسط عبر الفصل بين أفراد العشيرة والأسرة الواحدة.
يراودني شعور أننا كعرب نتعامل مع مختلف الأطراف بشفافية غير متبادلة، غافلين أحيانًا عن التحالفات المشكوك فيها التي تُحاك ضدنا، والتي تنطلق من المثل القديم الذي يقول إن "عدو عدوي هو صديقي". فما هي سبل حماية مستقبل الأمة العربية؟ وكيف يمكننا الاستفادة واستخلاص العبر من هذه الديناميكيات المعقدة؟
لا يمكننا إلا أن نشعر بالفخر عند ذكر إنجازات وفتوحات العالم العربي التاريخية خلال العصر الذهبي الإسلامي، فقد كان لها تأثير كبير في الحضارة الإنسانية ونهضتها. لقد قدم علماء وفلاسفة وفنانو العرب مساهمات لا تقدر بثمن للمعرفة والثقافة البشرية. ولكن مع الأسف، لم ننجح بالحفاظ على هذه المرحلة من التنوّر والتقدم والاستفادة منها لحماية المنطقة من المؤامرات والدسائس.
وكتب في ذلك المؤرخ المشهور برنارد لويس ذات مرة قائلاً، "لم يكن العصر الذهبي للإسلام خاليًا من التحديات، حيث اختبرت الانقسامات الداخلية والضغوط الخارجية في كثير من الأحيان مرونة المجتمعات العربية. وتقف الحروب الصليبية والغزوات المغولية كتذكير قاس بالمخاطر التي واجهها العالم العربي. وكان في هذه الأوقات المضطربة غالبًا ما يطرأ مفهوم 'عدو عدوي هو صديقي'.
وقد حددت هذه التهديدات الخارجية المسرح لقرون لاحقة من الصراعات الجيوسياسية وتحولات القوى. فعلًا، يتنقل عالمنا اليوم في شبكة معقدة من التحالفات والعداوات، حيث تم تكوين تحالفات مثيرة للجدل حول مستقبل استقرار منطقتنا، بما فيها الديناميكيات الغريبة بين الغرب وإيران وإسرائيل.
فعلى الرغم من العداء المعلن بين مختلف هذه الأطراف، نجد أفعالها تناقض في كثير من الأحيان مواقفها الرسمية، إذ تخدم مصلحة أعدائها المعلنين على حساب الدول العربية التي تعاني منها الأمَرَّين، من خلال ميليشيات منتشرة في عدد كبير من الدول العربية، هدفها المعلن هو العداء لإسرائيل ومقاومة إسلامية، فيما باطنها إبقاء الشرق الأوسط في حالة عدم استقرار دائم واستنفار للدفاع عن عقيدته، وهويته ومقدساته.
يؤكد ذلك الدكتور الأمريكي جون ميرشايمر، الباحث البارز في العلاقات الدولية، حين عبّر عن مخاوفه بشأن التحالف المشكوك فيه بين الغرب وإيران قائلاً إن "اصطفاف الغرب مع إيران في مختلف المسارح الجيوسياسية يثير الدهشة. وأثناء سعيه لتحقيق مصالحه في الشرق الأوسط، كان الغرب يغض الطرف أحيانًا عن طموحات إيران الإقليمية ودعمها للجهات الفاعلة غير الحكومية".
لطالما ناشدتُ العالم العربي من خلال كتاباتي في العقدين الأخيرين، ولا سيما قادة دول مجلس التعاون الخليجي، للتنبه من وقوع بعض العواصم العربية في براثن إيران. ولا يُخفي المسؤولون الإيرانيون فخرهم بهذا التمدد، بل إن شخصيات إيرانية بارزة أقرّت فعليًا بذلك، حيث صرّح في عام 2015 حيدر مصلحي، وزير الاستخبارات الإيراني السابق في حكومة محمود أحمدي نجاد، أن "إيران تسيطر فعلاً على أربع عواصم عربية كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو"، كما تفاخر المرشد الإيراني علي خامنئي في تصريح له في نوفمبر 2022 بتغوّل أذرعه الفاعلة في 4 عواصم عربية، محتفيًا بـ "نجاح رؤية إيران في سوريا والعراق ولبنان".
العراق، اليمن، سوريا، لبنان دول سقطت تحت سيطرة الملالي في طهران، والخوف الأكبر من أطماع إيران التوسعية التي قد تطال مقدّساتنا وما تبقى من دول الشرق الأوسط.
وبالمثل، يظل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني قضية مركزية في المنطقة. ويشير الدكتور رشيد الخالدي، وهو مؤرخ مرموق للصراع العربي الإسرائيلي، إلى أن "الاحتلال الإسرائيلي المستمر وتوسيع المستوطنات لا يزال يهدد السلام في العالم العربي. ولا يمكن معالجة محنة الأمة العربية بشكل كامل دون حل عادل لهذا الصراع".
وكأن التعاضد العربي واستقرار ووحدة صفه يشكلان تهديدًا لا ندرك مخاطره لدول الغرب وشركائها. فيجوز هنا السؤال: "هل توحّد مصلحة أمريكا والغرب وإسرائيل مع إيران الصفوف لمنع العالم العربي من المزيد من التقدم والازدهار واستعادة عصره الذهبي؟
أمام كل المخاطر التي تحيط بالعالم العربي، من الضروري أن نرسم مسارًا نحو حماية مستقبله، وإعطاء الأولوية للوحدة والتعاون، والاستثمار في التعليم والابتكار والبحث وتمكين أبنائنا "رعاة هذه الأرض"، الأمر الذي يساعد على تحصين العالم العربي واستعادة أهميته التاريخية. فالعمل الجماعي، على المستويين الإقليمي والدولي، أمر بالغ الأهمية لمعالجة القضايا المعقدة التي تواجهنا.
على الدول العربية أن تعمل معًا لمواجهة التحديات المشتركة، مثل عدم الاستقرار السياسي، والتنمية الاقتصادية، والتهديدات الأمنية. ومن الممكن أن تكون مبادرات مثل جامعة الدول العربية، إن تم تفعيل دورها، بمثابة منصات للتعاون وحل النزاعات، وأن تكون الأولوية لحل الصراعات الإقليمية، وفي طليعتها الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ووضع حدّ لطموحات التمدد الإيراني.
إن تاريخ العالم العربي هو شهادة على مرونته وإسهاماته الدائمة في الحضارة الإنسانية. ورغم أنه واجه مؤامرات وتحديات منذ عصره الذهبي، فهو يمتلك القدرة على التغلب على أخطار العصر الحديث. ومن خلال تعزيز الوحدة والوضوح والتعاون، يمكن للأمة العربية أن ترسم مسارًا نحو مستقبل أكثر إشراقًا، مستقبل تستعيد فيه مكانتها كمنارة للثقافة والمعرفة والتقدم على المسرح العالمي.