نواكشوط، موريتانيا (CNN) -- ألاحظ منذ فترة سيطرة الاقتباس من الأفلام الأجنبية على السينما المصرية، الأمر الذي أدى بها إلى التحول إلى صناعة رديئة لا تقدم جديداً. فالأفكار المجترة المكررة تصيب المشاهد بالانزعاج والاحباط وتقزّم طرحه وطموحه. لكن، يبدو أن نطاق الاقتباس في مصر بدأ يتسع ويخرج عن إطار السينما ويتحول إلى مجال السياسة والحكم.
فاليوم، أتفرج بحسرة على إعادة السيناريو الذي حصل في بلدي موريتانيا، على أرض مصر الثائرة، بنفس نوعية الأبطال والأفكار، مع اختلاف بسيط في الأنماط الدرامية، وذلك بعد الحديث عن احتمال ترشح المشير عبد الفتاح السيسي - الذي أطاح بالرئيس المنتخب محمد مرسي - للرئاسة في مصر وإعلان الجيش دعمه ومباركته للقرار.
موريتانيا أولا:
في أغسطس من عام ٢٠٠٥، قام العسكر في موريتانيا بالإطاحة برأس نظامهم آنذاك، معاوية ولد سيد أحمد الطائع (حكم معاوية موريتانيا في الفترة ما بين 1984 حتى 2005 وكان نظامه قمعيا)، وأعلنوا عن نهاية الطغيان والفساد وأشرفوا على مرحلة انتقالية أسفرت عن انتخابات نزيهة من الناحية الشكلية، ووصل من خلالها رئيس مدني يدعى سيد ولد الشيخ عبد الله إلى الحكم في موريتانيا. ورغم أن هذه الانتخابات كانت نزيهة من الناحية الشكلية، إلا أن العسكر كان لهم الدور الأهم في وصول هذا الرئيس، فقد دعموه على حساب زعيم المعارضة الموريتانية التاريخي، أحمد ولد داداه واستطاعوا تفتيت المعارضة لذلك الغرض (الجنرال ولد عبدالعزيز رئيس موريتانيا الحالي اعترف بدعم الجيش للرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله في الانتخابات).
حكم الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله موريتانيا لمدة سنة ونيّف، وجرت الإطاحة به من قبل قائد الحرس الرئاسي الموريتاني، الجنرال محمد ولد عبد العزيز في انقلاب يوم السادس من أغسطس/آب 2008، وذلك بعد أن قام الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله بإقالة الجنرال ولد عبد العزيز من منصبه، الأمر الذي تتيحه له صلاحياته. رفضت المعارضة هذا الانقلاب وتصاعدت وتيرة الاحتجاجات الرافضة له. لكن الأمر انتهى حينما اتفق العسكر مع المعارضة على توقيع اتفاق في العاصمة السنغالية، أفضى إلى انتخابات رئاسية في سنة 2009، وطبعا نجح الجنرال المنقلب لأن الجيش الموريتاني يدعمه وكل موارد الدولة واداراتها مسخرة له -- أحمد ولد جدو ، وقد شككت المعارضة في الانتخابات ونزاهتها.
هدأ الوضع قليلا ليتفجر بعد الربيع العربي وتدخل موريتانيا في حالة من عدم الاستقرار السياسي، فالحركات الشبابية تطالب اليوم بسقوط النظام وكذلك المعارضة التقليدية، حتى أنها قاطعت الانتخابات التشريعية، والاحتجاجات المطلبية تتصاعد والفساد زاد والبطالة والنهب الممنهج للثروة كذلك. هذه هي الحالة في موريتانيا.. فالعسكر يجدد نفسه، انقلب في البداية وصنع فيلما رديئا تمخض عن رئيس مدني، لتتم إزاحته ويكف الجيش عن نواياه ويعود للحكم من النافذة.
مصر ثانياً:
بعد الاطاحة بالطاغية حسني مبارك في ثورة ٢٥ يناير، بدأت رياح الأمل تهب على مصر فبدأت الانتخابات والروح الديمقراطية تتناثر في أرض الثورة.
لكن ذلك الحلم الجميل لم يدم طويلاً، فما إن بدأت نتائج الانتخابات تظهر حتى بدأت الأزمات والقلاقل والصعوبات تطفو على السطح، وبدأت الصراعات بين القوى الثورية والأطياف السياسية المصرية التي شاركت في الثورة ودخلت العملية السياسية في مصر بعد الثورة. فالإخوان بدأوا بالتفكير في كيفية الاستئثار بالكعكة وتنكروا للعهود التي قطعوها للشعب وللشركاء السياسيين، والقوى الثورية الشبابية أصيبت بحالة من الاحباط تجاه النتائج الأولية للثورة والحالة التي يدير بها أول رئيس مدني بلدهم مصر وكونه رئيساً لجماعته وليس لكل الشعب والنخب السياسية.
أعلنت المعارضة المصرية التقليدية الحرب على سيطرة فصيل واحد على مصر، ورفعت شعار ضرورة المشاركة في إدارة البلد ، ولم يسمع أي فصيل للآخر وفضل الكل أن يزيد من حالة التوتر وبدأت المعارضة بالمطالبة بسقوط النظام الإخواني وخرجت بقوة ضده، وتحالفت مع العسكر كما فعل هو مع العسكر في بداية الثورة كنوع من الانتقام.
حالة الاستقطاب الحاد هذه كانت الفرصة الذهبية للعسكر كي يرجعوا للحكم -- أحمد ولد جدو بحجة أن المدنيين فضلوا الصراع على الانتقال إلى مرحلة البناء، وفعلا قام العسكر بفعلتهم وسيطروا مجدداً على الحكم، وبدأت رحلة جديدة من القمع والقتل والتنكيل بالشعب، ورجعت مصر خطوات إلى الوراء وأصبح إرهاب الشعب والقمع واحتقار الانسان أعلى الأصوات في الدولة.
قصتنا في موريتانيا هي قصة مصر مع اختلاف أن الشعب المصري قام بثورة عظيمة وقدم الشهيد تلو الاَخر ومازال يقدم دروسه النضالية، وأن الشعب كان حاضراً في التجربة المصرية بشكل قوي. أما نحن فقد أوهمنا أنفسنا بحدوث تغيير بعد الانقلاب على الطاغية معاوية ولد سيد أحمد الطائع في سنة ٢٠٠٥، ولم نستوعب الدرس إلا بعد عودة الحكم العسكري بشكله السافر لنستأنف نضالنا ضد الحكم العسكري ولو بشكل غير كاف .
لكن في القصتين، نجد أن العسكر في النهاية يعودون إلى الحكم بعد فيلم من إخراجهم. ومن خلال القصتين خرجت بقناعة تفيد بأن اشراف العسكر على المراحل الانتقالية في البلدان المتجهة إلى الانتقال الديمقراطي ويسيطر فيها الجيش على مفاصل الدولة خطر على مستقبل تلك التجربة. فإشرافهم يعطيهم الفرصة للتحكم في قانون اللعبة ورسم مسارها حسب مزاجهم وهو ما يتيح لهم فرصة العودة إلى الحكم متى يشاؤون.
أعتقد أن النضال من أجل إدارة المدنيين للمراحل الانتقالية وخروج العسكر من العمل السياسي هو الأولى، فالاستعجال في المراحل الانتقالية والصراع على الحكم أثناءها سبب مباشر في سحق تجارب الانتقال الديمقراطي .
أكدت لي التجربتان أن المراحل الانتقالية تتطلب الكثير من التشارك والتعاضد بين القوى المدنية، وأي خلاف من الضروري حله دون اللجوء للعسكر، وهو ما أكدته التجربة التونسية. -- أحمد ولد جدو فرغم الصراع الذي حصل بين مكونات المشهد السياسي التونسي إلا أن النخب التونسية استطاعت أن تغلب مصلحة الانتقال الديمقراطي على المصالح الضيقة وهو ما جعل التجربة التونسية تخرج من كبواتها الكثيرة بدستور توافقي على الحد الأدنى يعبر عن قيم الاختلاف في الدولة.
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه، ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر CNN.