(ما يرد في المقال لا يعكس وجهة نظر CNN وإنما يعبّر فقط وحصرا عن رأي كاتبه)
(CNN) -- فاجأت أحداث شمال العراق في الأيام الماضية العراقيين والعالم. وفيما يتسارع تطور الأحداث والمواقف التي يحيط بأسبابها ونتائجها الكثير من الغموض، يُسارع الصحافيون والسِّياسيون إلى توصيف ما يجري في العراق بأنه حربٌ طائفية بين السنة والشيعة، موجهين أصابع الإتهام، كلٌ بحسبَ إصطفافاته السِّياسية والمذهبية، إلى "الإرهاب السُّني" والدول الداعمة له أو إلى "المشروع الشيعي الفارسي" في إشارة إلى السًياسة الإيرانية في المنطقة.
ولا شك أن العصبية الطائفية هي إحدى الأدوات الأكثر تأثيراً في تأجيج أي صراع قد تعوِّل عليه القوى الإقليمية والدولية الطامحة لتحقيق أهدافها الجيو استراتيجية في المنطقة. ومن المؤكَّد أن حجمَ ما يجري في نينوى وكركوك وصلاح الدين شمال العراق ليس عملاً تقوى على إحداثه مجموعة منفردة، حتى إذا كانت بالثقل الذي يعكسه التنظيم الذي يعرف بـ"داعش."
ما يحصل في العراق، هو بالتأكيد مخططٌ سابق تشترك فيه دولٌ وقوىً بحجمه. وتتحدث فرضيتان في المشهد العراقي اليوم عن انخراط المالكي وحليفته إيران من جهة، وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى.
وإذا نظرنا ملياً في الفرضية الأولى، فإن من يتبناها يرى في سقوط أجزاء من شمال العراق بيد داعش عملاً مدبراً من قبل المالكي ومن خلفه إيران لتدعيم موقفه لتولي ولاية ثالثة لرئاسة مجلس الوزراء، وبذلك تكون السرعة المفاجئة لإستسلام الجيش العراقي أمام الزحف "الداعشي" دون أي مقاومة ليست إلا أمراً بإشارةٍ من المالكي في محاولة منه لإستعطاف الداخل والخارج للبقاء في السلطة. هذا وقد كانت مرجعية السيستاني قد دعت مقلديها صراحةً إلى الإنضمام للجيش العراقي في تصديه للإرهاب. ويشكل هذا الموقف الأول من نوعه قوة دعم لتوحيد شيعة العراق حول المالكي، ما يزيد من حظوظه في البقاء. وتُشكِّك هذه الفرضية في حيازة المالكي لثلث أعضاء المجلس، كما كان قد أعلن في مطلع هذا الشهر، وترى في تحريكه هذه الأحداث فرصةً له لإعلان حالة الطوارئ والضغط على الكتل البرلمانية في كردستان، لا سيما كتلة البرزاني، لدعم إنتخابه لولاية ثالثة، الأمر الذي يرفضه البرزاني حتى السَّاعة. وترى هذه الفرضية بأن الجلبة السياسية والعسكرية في المحافظات المتاخمة لكردستان، تطرح مخاوف أمنية وإقتصادية في الإقليم المستقل، إذ تهدد من جهة بقطع الطريق بين بغداد وكردستان، حيث تتمركز كبرى الشركات والإستثمارات الناشطة في العراق بأكمله، وتستنفر الإقليم أمنياً من جهة أخرى، ما ترجم ميدانياً تدخلاً سريعاً للبشمركة للسيطرة على كركوك.
أما إقليمياً، فتستفيد إيران من تعاظم قوة داعش في العراق وتغذيته للخوف الغربي من توسع سطوة الجهاديين في الشرق الأوسط، إذ يُصورها كحليف لأمريكا في القضاء على الإرهاب، ما قد توظفه لكسب دعم الغرب لبقاء حليفها المالكي في السلطة، ويمنحها أوراقاً إضافية في مفاوضاتها حول الملف النووي. ويستشهد مرجحو الفرضية الأولى بموقف روحاني في الأيام الماضية المبشر بآفاق "للتوصل لاتفاق شامل لإنهاء النزاع النووي مع القوى العالمية الكبرى بحلول مهلة 20 يوليو"، وغيرها من التصريحات الواضحة عن الإستعداد للتعاون مع الولايات المتحدة للتصدي للإرهاب في العراق.
وفي المقلب الآخر، تنظر الفرضية الثانية إلى الواقع الذي إستفاق العراق عليه بين ليلة وضحاها على أنه جزءٌ من المشروع التركي الأمريكي في سوريا والعراق، إذ يُضعف من النظام العراقي الموالي لإيران وإمكانية إستمراره من جهة، ويؤمن ممراً مادياً وعسكرياً للمعارضة السورية من جهة أخرى. وهنا يُشار إلى النفوذ التركي في الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، إذ تحوي نسبةً كبيرة من التركمان وتلاصق محافظة دهوك المفتوحة على تركيا. ويُفسر متبنو هذه الفرضية تهاوي الجيش أمام "داعش" على أنه إنشقاق ممنهج للفرق السنية المعارضة للمالكي، بإيعاز مخابراتي ودعم عسكري تركي. وبحسب الفرضية الثانية، دفع هذا المخطط المالكي إلى دعوة "كل مواطن عراقي" للتطوع في وحدات عسكرية بديلة، مهدداً بمعاقبة كل القادة العسكريين الذين تخلوا عن واجباتهم.
وترى الفرضية الثانية أن الأتراك يطمحون إلى تغذية المعارضة السورية بشتى أنواع الدعم من خلال سيطرة "داعش" على المحافظات ذات الغالبية السنية في العراق – وهي صلته الوحيدة بسوريا - والاستيلاء على عتاد الجيش العراقي ومبلغ يفوق الملياري دولار أمريكي من المصارف.
وتضاف مصلحةٌ أخرى مما يجري في العراق إلى سلة تركيا التي ترى في تسهيل إعلان إستقلال شمال العراق فرصةً ذهبية لفرض سيطرتها على النفط وغيره من الموارد الطبيعية في هذه المنطقة. ومن المهم الإشارة هنا إلى الأتراك الـ48 المخطوفين في الموصل، من بينهم القنصل التركي، والذين رأى أردوغان في إختطافهم إتهاماً واضحاً لحكومة المالكي وليس داعش.
وتذهب هذه الفرضية أكثر من ذلك لتشير إلى تورط القوى الكردستانية، وعلى رأسها البرزاني، في هذا المخطط الذي يسمح لها أخيراً في السيطرة على المناطق المتنازع عليها كما رأينا في كركوك.
ومن الجدير ذكره هنا، أن تركيا كانت قد وقعت خلال الأسبوع الماضي إتفاقاً مع الحكومة الكردية يسمح للأتراك بشراء النفط من الإقليم خلال الخمسين سنة المقبلة من جهة، ويسمح للإقليم بتصدير نفطه عبر المرافئ التركية، وذلك ربما لطمأنة البرزاني في حالة تدهور الوضع على حدودها، ما يرجح الفرضية الثانية.
أما إقليمياً، فتستفيد الإدارة الأميركية من دعمها المعارضة السورية بشكل غير مباشر، ما ستوظفه في مفاوضاتها المقبلة مع نظام الأسد. أضف إلى ذلك انهيار الأمن وهلع العراقيين من سيناريو التقسيم، ما سيظهر فشل المالكي في السلطة ويؤدي فعلياً إلى فرض واقع جديد في العراق.
وبناء على ذلك، من الممكن إستشراف إنعكاس المشهد العراقي في اثنين من السيناريوهات: إستغلال تركيا والغرب للأحداث الحالية للدفع نحو التقسيم، أو إغراق العراق بحرب طائفية تعزز من بقاء المالكي في السلطة بإستبعادها التقسيم الذي يتطلب هدوءً نسبياً.
ويضع الوضع الحالي العراق بين فكي كماشة هما التقسيم أو الحرب الأهلية في الحالتين.
وثانياً، يضع الوضع الحالي كردستان في الواجهة، فيجد الإقليم المستقل نفسه، مرغماً أو عن سابق تصميم، جزءاً من الصراع، في وقتً يتوقع البعض هجماتٍ إرهابية تزعزع إستقراره، وأن يعلن أخيراً استقلاله وإغلاق أراضيه، أو دعم حكومة المالكي والقبول بتجديد ولايته.
وثالثاً، ستنعكس الحالة العراقية دون شك على المنطقة، وقد بدأت إنعكاساتها في سوريا وفلسطين وقد تمتد إلى لبنان، نتيجة إستخدام الأوراق الإقليمية من قبل كل من الطرفين لتوظيفها مكاسباً في المفاوضات. وقد يتكرر الخيار بين الحرب الأهلية والتقسيم في سوريا وربما لبنان، وهما ساحتان مفتوحتان على صراع مماثل وغير محصنتان لمنعه.
وحتى لا تكون الصورة قاتمةً بحتة، إن إمكانية نجاح المفاوضات الأمريكية الإيرانية، ولاحقاً الإيرانية- السعودية، قد تأتي بفرص لإعادة إرساء الإستقرار في المنطقة. وفي هذه الحالة، لا يبقى أمامنا سوى إنتظار ما ستؤول إليه هذه المفاوضات. وبما أن المعطيات لا تزال غير مكتملة حول طبيعة ما يجري في العراق، فإنه، من المجدي للإعلام العربي أن يتصرف بمسؤولية، فيتوقف عن بث الإتهامات العشوائية لخدمة أغراض سياسية تزيد من ذر الرماد في العيون، وتؤجج الصراع الطائفي في العراق عن قصدٍ أو عن غيره.