بقلم فرانك فوريدي
(فرانك فوريدي هو أستاذ علم الاجتماع في جامعة كنت في كانتربوري. وهو مؤلف كتاب "الحرب العالمية الأولى: لا نهاية لها في الأفق." وما يرد في المقال يعبّر حصرا عن رأيه ولا يعكس وجهة نظر CNN)
من المتعارف عليه، وعلى نطاق واسع، أنّ اتفاقية الهدنة عام 1918 لم تضع حدا للمأساة التي بدأت عام 1914. فالتنافس الجيوسياسي التقليدي استمر ولكن بلبوسه أيدولوجيات متنافسة مثل الفاشية والستالينية مما عزّز استدامة الحرب.
هذه على الأقل خلاصة الكثير من المراقبين في الفترة الممتدة بين 1914 و1945 لما يعتبرونه حربا استمرت ثلاثين عاما. لكن تلك الحرب التي استمرت ثلاثة عقود تركت مكانها بدورها لحرب أخرى استمرت أربعة عقود هي الحرب الباردة.
ولبرهة ما، بدا أن نهاية الحرب الباردة وضعت حدا للنزاعات التي شهدتها ساحات المعارك منذ 1914. لكن "نهاية التاريخ" لم تستمر إلا للحظة موجزة جدا، فنحن الآن في قلب نزاع يقال أصلا إنه "حرب على الإرهاب" ولكنّ تمت إعادة صياغته من قبل الحكومة الأمريكية إلى "الحرب الطولية" وفي الآونة الأخيرة إلى "عملية طوارئ ما وراء البحار."
ولم تكن العمليات المتعلقة بسنة 1914 مقتصرة على العمليات العسكرية فقط بل إنها كانت أيضا ساحة لصراع الأفكار وصدام الثقافات. والقصة التي بدأت عام 1914 كانت مدفوعة بأزمة معنى مسّت النخب السياسية والثقافية للمجتمعات الغربية بما دفع مزاجا قويا من النفور والتيه للسيطرة على الحياة الثقافية.
في لحظة الارتباك تلك حتى الفنانون والمفكرون يطمحون إلى أجوبة المعاني عبر القتال من أجل قضية حتى لو كانت عسكرية. وبعض من أكثر المدافعين المندفعين الأشداء على الحرب كانوا مدفوعين باستعداد لديهم للتفاعل ضدّ ما يرون انعدام الإنسانية في الحداثة الرأسمالية.
وعايش الكاتب النمساوي الشهير ستيفن زويغ حربين عالميتين. وعندما بدأت الحرب الكبرى عام 1914 كان هو إلى جانب جميع المفكرين الأوروبيين تقريبا إلى جانب حرب الأمة. ولاحقا، ومع شيء من الشعور بالحرج، تحدث عن "نوع من الحماس والاحتفال" سيطر على الناس "وحتى نكون صادقين، علي أن أعترف أنه كان هناك نوع من الأمور المغرية التي تجعل من الصعب على أي شخص أن يتجنبها."
وتعد الحرب العالمية الأولى أخر حدث شهد اتفاقا بين المفكرين والفنانين على أنّه يوجد في ساحة المعركة معنى وجودي، لكن النزاعات التي تتجاوز المعايير والقيم والأشكال المعتادة والتي تمّ تجميد بعدها الوجودي ومعناها الفكري، استمرت حتى اليوم.
لقد كانت الحرب العالمية حافزا على تآكل نظام المعاني السابق وساهم في تكثيف صراع القيم. ولذلك فإنّ منابع ما يوصف حاليا على أنه حروب ثقافية، يمكن أن تعود إلى فترة ما في حدود أغسطس/آب 1914. لقد تم تسييس الثقافة والطموحات الجيوسياسية تم تأطيرها في دعوات إلى "أسلوب حياة." واليوم، لا يمكن مشاهدة سوى فئة قليلة من المفكرين الذين يرفعون العلم. وبدلا من العلم، فإن جماعات متنافسة تقدّم هويتها وبدلا من الاحتفال بأسلوب حياتها، فإنها تفرض "نمط حياتها."
ومع تراجع الأيدولوجيات القديمة، اتخذ تسييس الثقافة بعدا متناميا لا يمكن تضييقه. ويمكن أن نرى ذلك في كون المسائل المثيرة جدا للجدل والانقسامات مثل الحياة الأسرية وزواج المثليين والإجهاض والمساعدة على الانتحار وتعدد الثقافات، تترجم الخلافات من خلال القيم الثقافية.
والمثير أكثر للقلق أنّ مثل هذه الصراعات تتخذ شيئا فشيئا بعدا كونيا والمثال على ذلك أن الصراع بين روسيا والغرب تتم إدارته بواسطة الثقافة. وعندما اتهم الغرب الرئيس الروسي بكونه معاديا للمثليين، جاء الرد من موسكو بأنّ روسيا هي معقل القيم التقليدية. ومثل بوتين فإنّ الكثير من المسلمين، يستندون إلى التراث والتقاليد. فشباب مسلمي العالم الغربي يعبرون عن رفضهم لمعاني وقيم التجمعات التي نشأوا فيها ويقعون فريسة سهلة لأي نداء يستند إلى حرب الثقافات --فرانك فوريدي-عالم اجتماع .
والفيديوهات الجهادية تبعث دائما برسالة بسيطة وهي أن الجهاد يوفرّ إجابة على أسئلة معنى الوجود. وفيما أنا أكتب هذا المقال، فإني أشعر بطبول الحرب وهي تدق من جديد. وأبو بكر البغدادي، زعيم داعش، أعلن عن إقامة الخلافة في الشرق الأوسط وهدفه هو هدم جزء مهم من إرث الحرب العالمية الأولى وهو الحدود بين العراق وسوريا. نعم. ليس هناك نهاية على المدى المنظور للحرب العالمية الأولى --فرانك فوريدي-عالم اجتماع .