يوسف بن مئير يكتب.. "نظام اللامركزيّة للبلديّات في بلدان الربيع العربي"

الشرق الأوسط
نشر
7 دقائق قراءة
يوسف بن مئير يكتب.. "نظام اللامركزيّة للبلديّات في بلدان الربيع العربي"
Credit: MARWAN NAAMANI/AFP/Getty Images

(الآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب، ولاتعكس بالضرورة وجهة نظر CNN)

تؤخذ الآن اللامركزيّة – أي النظام لهيكلة الإدارة العامة من أجل منح السكّان المحليين والجاليات المحليّة سلطة أكبر على إدارة شؤونهم الذاتيّة وتعزيز التنمية البشريّة – من قبل بعض بلدان الربيع العربي بعين الاعتبار كنظام إداري.

لا يوجد من الناحية التاريخيّة وجهة نظر سياسيّة – يساريّة كانت أم يمينيّة الاتجاه – تميل أكثر من غيرها نحو لامركزيّة السلطة لصالح المستويات الوطنيّة الدّنيا. فأنصار السياسة اليمينيّة يسعون لتطبيق اللامركزيّة، لأنّ لها الفعاليّة والقدرة على تعزيز الإدارة الذاتيّة. ويحبّذ أنصار السياسة اليساريّة نزعتها الطبيعيّة لخلق ظروف تستطيع أن تزيد من الفوائد التشاركيّة وتقلّل من الأسباب المنهجيّة الجهازيّة للفقر موقعا ً بموقع، وتدفع في نفس الوقت نحو الإصلاح المجتمعي الشامل. وتشترك كلا النظرتين السياسيتين في التشكّك نحو التخطيط المركزي، وتنظران إليه في الواقع كسبب رئيسي للمشاكل الاجتماعية.

لقد كانت المملكة المغربيّة أوّل رائد لربّما للامركزيّة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث بدأت بذلك من عام 2008، وقد استمدّت الإلهام الأولي لتبني هذه الهيكلة أو النظام للبلد من رغبتها في تعزيز التنمية البشريّة بالتوازي مع استقلاليّة أكبر لمناطقها، وهذا الالتزام المبكّر بنظام اللامركزيّة من أجل التنمية يعتبر عاملا ً أساسيّا ً في تفسير سبب الاستقرار السياسي والاجتماعي النسبي للمغرب خلال فترة الربيع العربي.

وعلى أي حال، قد يقرّر مستوى فعاليّة تطبيق النظام اللامركزي إلى حدّ بعيد مستقبل البلد في منطقة تغيير انتقالي كاسح لا يمكن التنبّؤ به، وعلى المغرب الآن أن يضع وينفّذ بطريقة أكثر فعاليّة قوانين وسياسات قد وضعت لها أساسا ً لكي تحقّق المستقبل التشاركي الديمقراطي والتنموي الذي يسعى إليه.

يحشد نموذج اللامركزيّة في المغرب دعما ً على المستوى المركزي والتشاركيّات العامّة والخاصّة تجاه تحقيق تنمية بشريّة يقودها المجتمع المحلي، ويعتبر نظام البلديّات -الذي يتطلّب وجود أعضاء مجلس منتخب محليّا ً لوضع خطط تنمية تعتمد على أساس مشاركة الناس مع دعم مشاريع ميزانيّة من المستويات الإقليميّة والوطنيّة – أسلوبا ً لامركزيّا ً ممتازا ً للتنمية البشريّة، ولكن تنفيذه على أي حال قد يكون معدوما ً بشكل ٍ مؤلم، لقد تمّ تقديم خطط تنمويّة بلديّة بدون تغيير أو تعديل من خلال المحافظة أو الإقليم ككلّ. وأعضاء المجلس البلدي، رغم أنّ لديهم أحسن النوايا، يفتقرون للمعرفة والمهارات المطلوبة لتسهيل وتسيير التخطيط التشاركي، ووضع خطط عمل تنموي بمشاركة السكّان المحليين.

تعتبر اللامركزيّة لغاية المستوى الإداري البلدي – وهو أقرب مستوى إداري للجاليات أو المحّلات نفسها – نظاما ً فعّالا ً، ولكنه يجب أن يكون مصحوبا ً بنظام تدريب يعتمد على أفراد الجالية أو المحلّة نفسها في تسهيل أو وضع التخطيط الديمقراطي التشاركي.

فمسودّة القانون اللبناني للامركزيّة الذي مرّر في 2 إبريل/نيسان 2014 يحتوي على فقرات أو قسمات ايجابيّة جدّا ً، تشمل توزيع السّلطة على الموظفين المحليين المُنتخبين وميزانيّة للإدارة المحليّة للخدمات البشريّة. ويتطلّب دوام النظام اللامركزي على أيّة حال أن يوجّه الدّعم المالي نحو مشاريع التنمية التي يقرّها ويديرها المنتفعون أنفسهم.

ففي العراق، وبالنظر للحرب الطائفيّة المشتعلة في الوقت الحاضر، يبدو أن الوقت الأنسب لتبني نظام فيدراليّ قد انقضى. الفيدراليّة نظام إدارة لامركزيّة تُفوّض الأقاليم بموجبه بتحديد الأجزاء الرئيسية من مصيرها.

وعلاوة ً على الغزو الأمريكي للعراق نفسه، فمن المؤسف له حقّا ً هو خسارة الفرصة التاريخيّة التي مُنحت بإعادة تعمير العراق، وهذه كان بإمكانها خلق نظام لامركزي ثابت ومستقرّ، بحيث كان باستطاعة كلّ فرد ٍ عراقي نتيجة لذلك أن يتمتّع الآن بفوائد اجتماعيّة واقتصاديّة واسعة النطاق، إضافة إلى الفوائد البيئيّة التي قد تحسّن كثيرا ً من حياة العراقيين. وقد تتضمّن أساليب التنمية التشاركيّة عمليّات تسوية تعتمد على الجالية نفسها لخلق خطط عمل تنمية محليّة يحدّدها المشاركون أنفسهم. فلو تمّ تبنّي هذه الأساليب والخطط آنذاك مع ميزانيّة الـ 60 مليار دولار التي كانت متوفّرة، لكان بالإمكان خلق حركة تنمويّة من القاعدة إلى القمّة عبر جميع أرجاء البلد.

ومهما بدا هذا الأمر صعب المنال في الوقت الحاضر، تبدو لامركزيّة السلطة لمستويات ما دون الإقليميّة (أي البلديّات) تكون قريبة ً للناس بقدر المستطاع، النهج الوحيد القابل للحياة بحيث يشعر العراقيّون أكثر من أيّ وقت ٍ مضى بأنهم يمسكون بزمام أمور حياتهم، وأنّ لديهم فرصة متواضعة للتعرّف على بعضهم البعض ويصبح هناك تواصل بين السنّة والشيعة. وبإمكان هذا كلّه أن يبني في الواقع عمليّات اعتراف الأطراف بعضها ببعض والسّلام وتنمية مشتركة.

وفي مصر تمّ وضع مشروع لقانون إدارة محليّة معدّل قد يبعث للحياة مؤسسات للامركزيّة. وإدخال الأسلوب التشاركي على أيّ حال، كما في نموذج المغرب الذي تشترك فيه القطاعات العامة والخاصّة والجاليات المحليّة في إدارة الخدمات البشريّة، سيساعد في محاربة الفساد البلدي المدمّر فكلّما كثرت العيون على نفس الميزانيّة والمشروع، قلّ الفساد. هذا وتعتقد الحكومة الأردنيّة بأن اللامركزيّة جزء حيوي ومهمّ من مستقبلها وتسلّم القيادة البحرينيّة أيضا ً بضرورتها إلى حدّ ما.

ومع تهديد عدم الاستقرار في المنطقة، نرى أنّ الحكومات في الوقت الحاضر متردّدة في توزيع السلطة، وهو التوزيع الذي – بالعكس – سيحافظ على بقائها. فهل بإمكان القادة السياسيين أن يثقوا في الحقيقة التي تقول بأن الشعب المخوّل (صاحب السلطة) الذي يتلقّى دعما ً ويلبّي احتياجاته التي يقرّرها بنفسه لن يقوّض أو ينقلب على الدولة التي وفّرت له هذه الفرصة الحيويّة؟ وكما تعلّمنا – ولو بتأخير ٍ كبير – في العراق فإن الجاليات لا تدمّر مشاريع إعادة إعمار خلقتها هي نفسها، وعليه نفهم من ذلك أيضا ً بأن هذه الجاليات أو المجتمعات لن تحاول الإطاحة بقيادة بلد ينصّ في القوانين استراتيجيّة ويوفّر الدعم اللازم لتنمية لامركزيّة تقودها ديمقراطيّة تشاركيّة. لذا على دول الربيع العربي أن تشعر بقلق ٍ أكبر حول التأخير بدلا ً من قلقها حول تنفيذ مثل هذه الإجراءات.