هذا المقال بقلم طلال سلمان، رئيس تحرير جريدة "السفير" اللبنانية، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
اندفع العدو الإسرائيلي إلى حربه الثالثة، الرابعة، الخامسة على غزة – فلسطين مفيداً من حالة التيه العربي ومؤكداً مدى شمولها وعمق تأثيرها على " الرعايا" المنتشرين بمدى اتساع قارتي آسيا وأفريقيا (والمهاجر..)
كانت قيادة التطرف اليميني الإسرائيلي تعرف ما يكفي عن عجز النظام العربي الغارق في دماء رعاياه كما في مشكلاته المعقدة سياسياً واقتصادياً، واندثار الحد الأدنى من التضامن الجامع بين الملوك والرؤساء والأمراء والشيوخ، بغير أن ننسى السلطان المفرد، كما كانت تعرف حالة الشعوب التي انقسمت بين مقيمة في قلب النار، أو مشردة في ديار اللجوء القريبة أو أصقاع الهجرة البعيدة، تاركة بلادها لنار الحروب الأهلية بين الأنظمة الفاشلة وبين العصابات الآتية من الجاهلية، لتبشر المؤمنين بدين غير الإسلام الذي عرفوه فآمنوا به والتزموا نص كتابه المقدس.
وكما في الحروب الإسرائيلية السابقة على غزة هاشم – فلسطين (وبغير أن ننسى الحروب على لبنان) والتي تعاقبت خلال السنوات الثماني الأخيرة، فقد تعامل أهل النظام العربي مع الحرب الجديدة على أنها " حملة تأديبية" أخرى تقوم بها "الدولة"-إسرائيل-على بعض الخارجين على إرادتها، من المقيمين على " أرضها " مؤقتاً، وريثما تستورد الأعداد الكافية من المستوطنين ليرثوا الأرض بما عليها تصديقاً للوعد الأسطوري المعطى لهم من دون خلق الله.
في السابق كان أهل النظام العربي يتملصون من الفعل باللجوء إلى التصريحات الشاجبة والمستنكرة وبعض التبرعات السخية والتواصل فيما بينهم" لتوحيد" المواقف المستحيل توحيدها إلا في " الصياغات الذكية" حمالة الأوجه، ومن ثم التلاقي في أفياء جامعة الدول العربية للتناوب على قراءة خطب مكتوبة بعناية بحيث لا تعبر عن موقف محدد.
على أن الجديد الذي طرأ على الحالة العربية تمثل في موقف مصر، الذي جاء مختلفاً عما سبقه من مواقف في حالات الحروب السابقة على غزة - فلسطين، سواء في عهد حسني مبارك أو خاصة في عهد الإخوان المسلمين بشخص محمد مرسي، والذي حكمه الارتباط الحزبي المشترك، متجاوزاً بذلك " التعاطف" إلى قدر من " التورط" ولو لفظياً، والذي لم يمنع الحرب الإسرائيلية ولكنه أثّر على سياقها التدميري وأسهم في وقفها -مؤقتاً- مستفيداً من تضامن بعض العرب، لا سيما منهم قطر بمالها وبعلاقاتها المميزة مع العدو الإسرائيلي، والتي أتاحت لأميرها أن يجيء إلى غزة شبه المدمرة، مصحوباً بزوجته الشيخة موزة، وأن يقدم تبرعات سخية لإعادة إعمار ما تهدم، مع إضافة جديد مبهر.
في الحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة كانت الدول العربية المؤثرة مشغولة عنها بهمومها الداخلية الثقيلة:
* مصر تكافح إرهاب الإخوان بعد إسقاط "دولتهم" التي لم تعمر لأكثر من عام واحد، وكذلك نتائج إضعاف "الدولة المركزية" بالحصار الدولي الذي لم ينجح توثيق العلاقات مع السعودية ومعظم الخليج (باستثناء قطر) في التخفيف من أثقاله.
لم يستطع العهد الجديد في مصر بشخص الرئيس الآتي من الجيش، الفريق السيسي أن يتخفف من أثقال الخصومة مع الإخوان، وأن يفصل بالتالي بين هذه الخصومة وبين الحرص على الدور القيادي لمصر، لا سيما فيما يتصل بغزة التي يكاد أهلها يرون أنفسهم "مصريين"، والتي تحرقها النار الإسرائيلية فلا تلتفت إليها مصر بالنجدة، ولو لوقف العدوان.
ربما كان من الصعب على هذا النظام المثقل بمشكلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية، والذي استولدته الحاجة إلى التخلص من حكم الإخوان قيصريا، إطلاق برنامج واضح للتغيير، فيما عدا شعارات طوفان الجماهير التي نزلت إلى الميادين في القاهرة وسائر المدن والقصبات في كامل البر المصري، تهتف للحرية والعدالة الاجتماعية، أن "يورط " نفسه في حرب احد لا يقتنع أنه لم يكن قادراً على وقفها بموقف وطني مصري، ويتجاوز الخصومة مع حماس إلى حماية الشعب الفلسطيني.
كانت هموم الداخل ثقيلة جداً، وبرغم أن معظمها موروث عن مجمل العهود السابقة، إلا أنه كان من السهل أن يحمّل الإخوان المسؤولية المباشرة، وأن يشمل الاتهام كل الإخوان حيثما كانوا، مع تركيز خاص على الدور القطري (والتركي)... وبالطبع فإن الإخوان في غزة كانوا في مقدمة المتهمين، خصوصاً وأن النظام وجد ما يدينهم به من أسباب التدخل في شؤون مصر الداخلية، (من تهريب السجناء، إلى تهريب السلاح عبر سيناء، إلى استخدام الأنفاق في الاتجاه المعاكس، أي بدل أن تكون من ليبيا عبر السودان فسيناء إلى غزة، صارت الوجهة الداخل المصري).
ولقد طغت العصبية بل الشوفينية المصرية على موقف النظام، ووجدت أرضاً خصبة في أجهزة إعلامه فصدرت عنه فضائح سياسية وأخلاقية يحاسب عليها القانون المصري ذاته، خصوصاً وأنها قد ألحقت الإهانة بتاريخ النضال من أجل كرامة مصر، والذي أعطى مصر المكانة الرفيعة والأهلية لقيادة أمتها العربية جميعاً.
*أما سوريا فقد كانت وما تزال غارقة في الحرب فيها وعليها، خصوصاً وقد أزيحت المعارضة السياسية عن موقع القيادة في مواجهة النظام لتحل محلها تنظيمات أصولية متعددة المصدر والهوية والأصل، تلم أشتاتا من "المجاهدين" من غير السوريين بل من غير العرب.
ثم أن هذه الحرب قد ضربت العلاقة التاريخية بين سوريا والفلسطينيين فيها، خصوصاً وقد امتدت ألسنتها إليهم، وكذلك امتد تأثير القوى الداعمة لبعض المعارضات المسلحة، وبالتحديد قطر التي تجهر بكونها حاضنة هذه المعارضات (في سوريا ثم في العراق، فضلاً عن مصر وليبيا وتونس الخ) إلى علاقة النظام السوري بحماس على وجه الخصوص.
ولقد فصل النظام في سوريا، أقله إعلاميا، بين من موقفه من حماس وموقفه من الحرب الإسرائيلية على غزة، فلم ينف أن بعض الصواريخ التي استخدمها المدافعون عن بيوتهم وأرضهم هي من صنعه، ثم خاض-بالصوت والصورة والموقف السياسي المعلن-الحرب وكأنها امتداد للحرب عليه، وتأكيد لطبيعتها، متجاوزا خصومته لقطر ومعها تركيا.
* أما العراق فأزماته الداخلية من الصعوبة والتعقيد والحدة بما يجعله على باب حرب أهلية تهدد وحدة شعبه وكيانه السياسي بالتمزيق، وبالتالي فهو عاجز عن أن يمد غزة حتى بموقف سياسي موحد، وبالتالي مؤثر، حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة التي كانت رحلته الأخيرة إلى المنطقة بعنوان غزة، وجد من الضروري أن يزور بغداد ليحاول إقناع المسؤولين فيها، سواء في الحكومة المستقيلة والمعلقة أو خارجها على الالتفات إلى المآسي المتفرعة عن الكارثة الوطنية العظمى في بلاد الرافدين، وأخطرها "حرب الاستئصال" التي شنها مقاتلو "داعش" على الأقلية المسيحية، وفيها السريان والكلدان والأشوريون، وهم أهل العراق الأصليون قبل الأديان جميعاً وبعدها.
* فأما السعودية وسائر الخليج (ما عدا قطر) فإنهم مثقلون بهمومهم، وبعضها ناجم عن الحروب التي تورطوا في تأجيج نيرانها في سوريا والعراق (ضد النظامين القائمين في دمشق وبغداد)، وهكذا فقد أداروا وجوههم إلى الناحية الأخرى، واكتفت الرياض بالتبرع ببعض الدواء لضحايا الحرب الإسرائيلية في غزة، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
ليست مبالغة القول إن الحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة هي أخطر الحروب بنتائجها على العرب في مختلف ديارهم: لقد فضحتهم جميعاً. فضحت عجز أنظمتهم (القوية فقط على شعوبها)، كما فضحت تفكك صفوفهم، خصوصاً وقد بلغ في بعض الحالات حد " التحالف" مع العدو الإسرائيلي وليس مجرد التواطؤ معه.
كذلك ليست مبالغة أن نقول أن العرب في مختلف ديارهم قد فجعوا بموقف السلطة الجديدة في مصر ولم يستطيعوا أن يقبلوه، برغم الذرائع العديدة التي قدمت لتبريره.
ففلسطين جميعاً، وغزة بالتحديد، مسؤولية وطنية مصرية كائنا من كان "الحاكم" فيها.
وستظل غزة تنظر إلى مصر على أنها مرجعيتها، في السلم كما في الحرب، وحاضنة فلسطينيتها التي تأكدت هذه الأيام بالتحام الضفة بها -بالدم- مؤكدة وحدة الأرض والشعب في فلسطين، التي كانت فلسطين والتي ستبقى فلسطين، وستظل مصر في عينها والقلب، سلماً وحرباً.