هذا المقال للكاتب المصري محمد محمود الإمام، الخبير في التخطيط، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
أيام الحُسْنيَّين، مبارك وفاروق، دار حوار مستفيض حول جواز خروج الممثلين المسرحيين عن النص أثناء الأداء، وهو خروج دفع إليه أمران:
الأول أن النصوص ذاتها تراجع مستواها بعد أن شهدت ازدهاراً غير مسبوق خلال فترة التزام الدولة والمجتمع بالماضي في تحقيق نهضة بشرية اختارها قائد ثورة يوليو غايةً يتكاتف الجميع على تحقيقها، فاحتلت الثقافة بكل أبعادها مركز الصدارة، لكونها هي القاعدة التي يقوم عليها البنيان الاجتماعي.
الثاني أن عوامل دخيلة على المجتمع ضربت في جذوره مع انصراف القيادات التي أعقبته إلى تشويه السياحة التي ظلت أمداً طويلاً تعتمد على المزارات الحضارية التاريخية والعلمية والدينية، بجعلها تسلية لمن ينفق مالا لم يأته نتيجة إسهام في نشاط منتج أو تحصيل علم نافع، فانحط مستوى الخدمات الترفيهية إلى دغدغة للغرائز، وانتقلت العدوى للنشاط السياسي ذاته إلى الحد الذي جعل عبارة "خليهم يتسلوا" عبارة يتشدق بها رئيس دولة تخلت عن مسؤولياتها الوطنية والقومية والحضارية.
وإذا صح ما بيناه في مقالات سابقة من تحول في النظرة إلى الارتقاء بشؤون البشر من تقديم البُعد الإنساني على البعد المادي، فإن رد الاعتبار إلى الثقافة يكون هو المدخل، ليس فقط من حيث المنتجات الثقافية بل، وهو الأهم من حيث تقويمها لسوك البشر، لكي يمتلك كل منهم القدرة على فرز الطيب من الخبيث، وعلى أن يصب عطاؤه في رفعة شأن المجتمع.
ورغم أن هناك إجماع على أن تخليص التعليم من قيود المنهج التلقيني أصبح ضرورة لا مفر منها، وأن التحول من التعليم إلى التعلّم الذاتي على مدى الحياة يجب أن توفر له السبل التي أتاحها مجتمع المعلومات، فإن الفرد لا يتمكن من استيعاب ما لم تغرس في ذهنه أسسه منذ نعومة أظفاره، وهو ما يقتضي النهوض بأساليب التربية التي تراجعت في ظل اقتصاد يلهث فيه الفرد وراء المال ولو بهجرةٍ تحرم أبناءه من رعايته أو تجبره على تعريضهم لمجتمعات تختلف منظوماتها الثقافية اختلافاً بيّناً، ولو كانت مشابهة في اللغة والعقيدة الدينية.
أعود بالذاكرة إلى أول أبنائي حينما زودته بلعبة اسمها "ميكانو" وهي مجموعة من القطع والأدوات التي يشكل بها أجساماً تماثل ما يحيط به، وتتدرج مستوياتها بإضافة وحدات تمكنه من الانتقال إلى تركيبات أشد تعقيداً.. وأذكر أنني ذهبت إلى متجر شيكوريل بشارع فؤاد (26 يوليو) لشراء إضافة إلى المستوى الثالث، فوجدت وفداً من الحاشية الملكية يشتري للأميرة فريال المستوى النهائي وهو الرابع عشر، وعجبت ماذا ستفعل به سموها.
لكن ما أسعدني أنه عندما فرغ ابني من تركيب التشكيلات التي وردت بالكتالوج جاءني – رحمه الله – قائلاً: بابا انظر ماذا عملت؟.. وجدته انطلق مفكراً خارج النص أو الكتالوج ليعبر عما دار بذهنه، وكانت هذه أول خطوة نحو الإبداع، وهو العنصر المحوري في الموجة الثالثة التي يسعى العالم إلى استكمالها.. وساعده ذلك على تكوين شخصية تملك قدرة التروي والتأمل، بحيث استجاب لطلبي عندما سافرت إلى الخارج بأن يرعى أشقاءه الأصغر، فنضجت شخصيته مبكراً وامتلك محبة تلاميذه فيما بعد كمدرس جامعي، لخلقه وعلمه.
لم يكن مجرد شبابه هو تذكرة الدخول إلى مسرح العمل العام كما يتردد هذه الأيام، بل كان ما غرسه فيه الجيل الأكبر من قيم وعادات.. فإذا فقد هذا الأخير تلك القدرة وتخلى عن تلك المسؤولية في ظل دولة تسعى إلى التفكيك دون إعادة تركيب، فإننا نضيف شباب الشوارع إلى أطفال الشوارع، ليخرج علينا شخص أخرق يطالب بإعدام أبناء الشوارع، وهو الأولى بالإعدام إذا كان مقصرا أو متستراً على تقصير.
وحينما قام ابني بإعداد رسالة لماجستير إدارة الأعمال، اختار موضوع "الإدارة الوسطى"، باعتبارها العصب الأساسي لأي تكوين مؤسسي متعدد المستويات والفروع.. كانت الدولة قد ركزت على الإدارة العليا، وتدريب المستويات الدنيا، وغابت الحلقة الحاكمة فترهل الجهاز التنفيذي وارتبكت شؤون قطاع الأعمال، بل والأسر والمجتمعات المحلية، وانتهى الأمر بانهيار البنيان المجتمعي.
وفي ظل ذلك غاب عن الثقافة وجهها الجمالي، وأول معالمه النظافة والإتقان، لأنها تريح النفوس والأذهان.. أتابع حديثي عن ابني فأذكر أنني صحبت والدته وأخته لزيارته أثناء إكماله دراسته في أمريكا، فإذا ابنتي تمشي على أطراف قدميها في مطار أمستردام، فسألتها عن السبب فكان ردها أنها تخشى تلويث مكان غاية في الجمال والنظافة.. وعندما توقفنا في نيويورك أثناء العودة، وكانت بلديتها تشكو من عجز مالي، تنفست ابنتي الصعداء لأنها وجدتها لا تختلف كثيراً عن مصر في أكوام القمامة.
حينما كنا نتداول ما آلت إليه الأوضاع قبيل الثورة، قلت إن مصر بها ميزتان إذا اجتمعتا انطلقت إلى العلا: حماس شبابها الذي أفرز جيل السبعينات، وتكاتف شعبها بغثه وثمينه وقت الشدائد إذا تبدى في الأفق أمل يبشر بخير تاقت النفوس إليه، وهو ما تبدّى خلال حرب الاستنزاف وبلغ الذروة عند العبور.
وتصورت في فبراير 2011 عندما نزل الشباب مبتهجاً بما أنجزه، ينظف الميادين والشوارع استعداداً لعهد جديد كاد اليأس من بلوغه يقتل النفوس كمداً، أننا اهتدينا إلى بداية الطريق، ولكن ما حدث بعد انتصار أكتوبر من تفريغ النظام القائم لمحتواه، تكرر بصورة أبشع بفعل شرائح تغلغلت في جسد المجتمع في ظل الانهيار الثقافي، يعلو فيها صوت من لا يفقهون من شؤون دينهم أو دنياهم شيئاً.
وآلمني أكثر أن من بقي على نقاء سريرته من المثقفين جاهدوا لتشكيل لجان حكماء تحاول رأب الصدع وإضاءة الطريق أمام سلطة تفرعت عن النظام السابق، وتولت الأمور بتكليف منه لتغطية مرحلة انقطاع قدرت بأن تكون قصيرة، فانسحبت لأنها تاهت في واد غير ذي زرع، وتعرضت لإهانات ممن يتشدقون بعبارات مستمدة من ثقافة تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان وتلخيص الديمقراطية في مؤسسات شكلية، تتولى هدم ما تبقى من المنظومة الثقافية.. وهي تجاهد لهدم المؤسسة الوحيدة التي كانت ولا تزال هي المقصودة بكل ما اقتيدت إليه الثورة من متاهات.
وترتب على ذلك دخول من يفترض فيهم امتلاك قدر من الثقافة بمعناها اللفظي في صراع متبادل، ضحيته الأولى تلك التشكيلات التي قامت على منطلقات اجتماعية.. إنها زيجة فكرية غريبة بين فكر اجتماعي متنور، وغيبوبة تجهيلية تنخر في جسد مصر ورفاقها في الربيع العربي، أنجبت.. يسقط حكم العسكر.. كغطاء لعبارة.. وداعاً مصر إلى الأبد.