هذا المقال بقلم محمد إبراهيم عوض، أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
المتابع للحياة السياسية في مصر بات معتادا على"المؤامرة" كتفسير للتطورات السياسية التي تمرّ بها البلاد ولما تواجهه هي والمنطقة العربية من عنف واضطرابات ونزاعات. والواقع هو أن حديث "المؤامرة" ليس وقفا على مصر والمنطقة، كما أنه ليس جديدا عليهما. عندما قامت الثورة البلشفية في روسيا في السنة 1917، اكتشف الثوار وكشفوا عن اتفاقيات سرية كانت روسيا القيصرية قد دخلت فيها طرفا هاما أو غير هام، ومنها اتفاقية سايكس- بيكو التي عقدها الدبلوماسيان البريطاني مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو في سنة 1916 لترث بها بلداهما الدولة العثمانية وتقتسما بلاد الشام والعراق، بدون علم سكان هذه البلاد. وارتبط بهذه القسمة الاستيلاء على فلسطين والتنفيذ التدريجي لمشروع الصهيونية فيها، كما أنه ليس بعيدا عنها النكوث عن الوفاء بالوعد الذي قطعه المندوب السامي البريطاني في القاهرة هنري ماكماهون للشريف حسين، حاكم مكّة، في سنة 1915 بالاعتراف باستقلال بلاد العرب موحدة عن تركيا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبدلا من ذلك إخضاع بلاد الشام والعراق المقسمة لنظام الانتداب الذي نشأ مع عصبة الأمم في سنة 1919. إتفاقية سايكس- بيكو مؤامرة لأنها تمت في الخفاء وبقيت سرية، ثم ولأنها أبرمت في حق من كان لا يملك من أمره حولا ولا قوة.
غير أن "المؤامرة" لا تصلح في تفسير ما يلحق بالدول المستقلة ذات السيادة. الدولة في التصرّف في شؤونها الداخلية تمارس حقوق السيادة على إقليمها. ليس سهلا ممارسة حقوق السيادة كاملة على كل إقليم أي بلد وعلى كل الأنشطة والسكان فيه، بل إنه ليس متصورا وجود بلد تمارس حقوق السيادة كاملة وكل الوقت على كل إقليمها وعلى جميع الناس والأنشطة فيها. السياسة الناجحة هي التي تمكن بلدا ما من ممارسة أكبر قدر من حقوق السيادة. والدولة ذات السيادة، في علاقاتها الخارجية، تصنع السياسات وتطبقها في حق الدول الأخرى حماية لحقوق سيادتها وتنمية لمصالحها. والدول الأخرى تمارس الشيء نفسه، فهي تصنع السياسات وتطبقها في حق الدولة الأولى للأغراض نفسها. يختلف منظرو العلاقات الدولية فيما إذا كانت حصيلة العلاقات بين الدول صفرية، أي فيما إذا كان ما تحققه دولة ما هو بالضرورة خصما من حقوق ومصالح الدولة الأخرى التي تدخل في علاقات معها، أم أن حصيلة العلاقات بين الدول هي إضافة إلى رصيدها كلها بحيث تستفيد جميعا من هذه العلاقات. دعنا من هذا الخلاف، ولنكتف بالقول إن السياسة الخارجية الناجحة هي التي تكفل للبلد المعني ممارسة أكبر قدر من حقوقها في السيادة وأفضل تنمية لمصالحها.
لنفترض أن بلدا ما تمكر ببلد آخر، ولتكن هذه البلد مصر. هل في حديث "المؤامرة" تحليل للسياسات التي صاغتها البلد الأولى وطبقتها مكرا بمصر، وهل فيه استعراض للأسباب الكامنة في مصر والتي مكنّت البلد الماكر من النجاح ولو المؤقت فيما ابتغاه؟ هل يساعد هذا الحديث في التصدي للسياسات المناوئة للبلد الأولى وفي علاج أسباب الضعف لتصبح مصر حصنا منيعا، ماديا ومعنويا، في وجه من يريد المكر بها؟ أليس في هذا الحديث تعمية؟ هل يمكن العلاج بدون تشخيص؟ حديث "المؤامرة" ينتهي في واقع الأمر إلى اعتبار أن وقائع السياسة هي بمثابة الكوارث الطبيعية التي لا يمكن التحسب لها أو الغيبيات التي تعدم التفسير العقلاني. وفي حديث "المؤامرة" تنصّل عن تفحص مسؤولياتنا عن سياساتنا، وعن تبيّن ثغراتها وعيوبها. فإن أراد الناطق بهذا الحديث أن يتفادى إعطاء الانطباع بأنه يتحدث عن كارثة طبيعية أو غيبية من الغيبيات فإنه يقع في فخاخ من نصبه هو. خذ ذلك المتحدث الحكومي الذي نسب علنا إلى وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة أشياء لم ترد في مذكراتها ليبرهن على ضلوع الولايات المتحدة بشكل أو بآخر في ارتكاب مأساة الفرافرة. في عصر تداول المعلومات الحالي سرعان ما انكشف زيف ادعاءات المتحدث. مدعاة الدهشة هي أن هذا المتحدث لم ينتبه إلى أن الحكومة المصرية استقبلت وزير الخارجية الأمريكية الحالي مرتين في نفس الأسبوع الذي تحدث فيه للتباحث معه بشأن الحرب الجارية في غزة. هل كانت الحكومة المصرية تستقبل وزير خارجية بلد تعلم أنه ساهم في جريمة قتل جنودها؟ حديث "المؤامرة" يضيّع قيمة الكلام، ويبدد الثقة فيه، ويحيد بالنظر عن أسباب العلل لينفق الوقت والجهد في توافه الأمور.
خذ مثالا ثانيا على حديث "المؤامرة" من خلط الدين بالسياسة. ربما أرادت دولة ما أو دول عدة لمصر والمنطقة أن تحكمها حركات تخلط الدين بالسياسة تحت تأثير المناظير الاستشراقية لبلداننا. هل هذه مؤامرة؟ هذه سياسة تواجه بسياسات داخلية وخارجية لإبطال مفعولها. هل نحن وضعنا هذه السياسات أم أننا اكتفينا بالتنديد "بالمؤامرة"؟! ثم ألم نشارك نحن وغيرنا في منطقتنا في إنجاح هذه "المؤامرة"؟ ألم نخلط الدين بالسياسة، وما زلنا، في دساتيرنا، وفي مدارسنا، وفي مساجدنا، وفي وسائط اتصالنا؟ وألم تقم تلك الرابطة في البلد العربي الشقيق ببث الفكر السلفي المتزمت الذي يستبدل الدين بالسياسة في العالم الإسلامي ونحن مرتاحون كل الراحة إلى هذه الرابطة؟ والشيء بالشيء يذكر، ألم يؤد مثل هذا الفكر إلى ازدراء ديانة ملايين المواطنين، ونحن سكتنا لعشرات السنين على هذا الازدراء؟ والشيء بالشيء يذكر مرة ثانية، ألم يؤد إعلاء شأن القيم المتزمتة إلى سيادة الفكر المحافظ بل والرجعي وإلى ازدراء المرأة والفتاة وجعلهما موضوعين لإرادة الرجل ورغبته بدلا من أن تكونا فاعلتين إلى جانبه؟ وألم يؤد الفصل بين الجنسين في المدارس والجامعات، وفي وسائل المواصلات، وفي الطوابير أمام مكاتب الاقتراع، إن لم يكن قانونا فواقعا، إلى أن أصبح الفتيان والفتيات غريبين كل عن الآخر، ونحن نستحسن ذلك باعتبار أنه من الفضيلة؟ أنستغرب بعد ذلك أن يتحرش الأقوى جسمانيا "بموضوع إرادته"، الغريبة عنه، التي لا يعترف بأن لها إرادة غير رغبته؟
حديث "المؤامرة" بؤس وفيه هوان. آن لنا أن نتحمل المسؤولية وأن نثق في قدرتنا على الوفاء بها.