هذه المقالة بقلم الصحفي جدعون ليفي، محرر عمود بصحيفة "هارتز" الإسرائيلية التي تصدر باللغتين العبرية والإنجليزية، غطى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني طيلة 25 عاما،.. أحدث إصداراته كتاب بعنوان "معاقبة غزة" نشر عام 2010، والمقالة لا تعبر سوى عن آرائه الخاصة وليس بأي شكل من الأشكال تعبير عن موقف الشبكة.
بدت شوارع أشكلون (عسقلان) شبه خالية لدى وصولي ظهر الاثنين، الحرب الأخيرة مازالت مستعرة، و"هارترز" نشرت للتو مقالة انتقادية كتبتها حول طياريي سلاح الجو والعواقب الوخيمة لعمليات القصف التي ينفذونها على غزة.
قدمت إلى هذه البلدة بجنوب إسرائيل، والقريبة من غزة، لسرد المخاوف السائدة بين المجتمعات الإسرائيلية المتاخمة للحدود، بوصفي كاتب عمود بإحدى الصحف الليبرالية الرائدة بالبلاد.. اعتدت تماما على عداء الناس لوجهاتي نظري، لكن هذا كان جديد تماما. ما أن وصلت البلدة لأجل بث مباشر مع القناة الثانية حتى تدافع حولي سريعا حشد من الغاضبين بدأوا في توجيه شتائم لي على نحو لم أشهده من قبل.. المتنمرون أحاطوا بي وقفزوا أمام الكاميرا في مسعى منهم لوقف المقابلة.. قطعت مضيف البرنامج البث المباشر فورا، ووجه الغوغائيون لي أقذع الشتائم بوصفي بـ"القمامة" و"الخائن" لزعم وصفي للطيارين الإسرائيليين بـ"القتلة".. وهو ما لم أقله مطلقا..
ومع تزايد حنق الحشد الغاضب، هرعت إلى سيارات وقدت سريعا للابتعاد عن مركز البلدة، ولا يزال الحشد الغاضب يلاحقني بصراخه حتى قدت بعيدا عن عسقلان.. لكن الأمر لم يقتصر على غضب شعبي بالشارع فقط، بل تجاوزه إلى شخصيات قيادية إسرائيلية اتهمتن علانية بـ"الخيانة" راييف ليفين، عضو بارز بحزب رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، دعا، خلال مقابلة تلفزيونية، إلى توجيه تهمة الخيانة لي أثناء فترة الحرب.. واستأجرت "هارتز" حارسا شخصيا لضمان سلامتي، وتحولت حياتي رأسا على عقب بسبب الحادث.
لكن لم ينجحوا في إسكات صوتي.. سأواصل الكتابة عن وحشية الحرب، عن الفظائع والقتل الجماعي للمدنيين والتدمير المروع في غزة. .. لكن لست أنا القصة، القصة الحقيقية هي الصدع غير المسبوق في ديمقراطية إسرائيل التي تكشفت خلال شهر واحد فقط من الصراع.. سنوات من التحريض القومي من قبل الحكومة الإسرائيلية، من التعبيرات العنصرية، والتشريعات المعادية للديمقراطية، من بطاقة سعر التحركات ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية دون تقديم أي كان إلى العدالة.. كل هذا التعصب انفجر فجأة بوجوهنا."
المناهضون للحرب تم الإعتداء عليهم في الشوارع من قبل مثيري الشغب من جناح اليمين، فقد أناس وظائفهم، وبحسب تقارير، بسبب تعليقات انتقادية على صفحاتهم بموقع فيسبوك، وفاضت المواقع الاجتماعية بمحتويات عنصرية وقومية و وحشية، وبشكل استثنائي، ثم انتشرت إلى عشرات الآلاف من الإسرائيليين.
قبل أسابيع عدة، أعرب أستاذ جامعي، في رامات جان، لطلابه عن أمله بأن تكون عائلاتهم بخير أثناء هذه الأوقات الحالكة، كلمات بسيطة تنم عن طيبة قلب، لكنها كافية لدفع عميد الكلية لمطالبة الأستاذ بالاعتذار إلى الطلبة عما بدر منه من كلمات اساءت لبعضهم.. الفشل في التمييز بين قيمة الدم الإسرائيلي والفلسطيني يبدو كافيا لمخالفة القيم الأكاديمية الإسرائيلية والتسبب في فضيحة عامة في إسرائيل في 2014.
بـ"تسلم"، منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية، أبدت قلقها بشأن امتناع وسائل الإعلام الإسرائيلية نشر أسماء الضحايا الفلسطينيين للعملية العسكرية الإسرائيلية، لذلك انتجوا إعلان مدفوع الاجر بلائحة أسماء وأعمار بعض الأطفال الفلسطينيين ممن قتوا في غزة، لكن رفضت سلطة التلفزة الإسرائيلية رفضت بثه على الهواء، بدعوى أنه "مثير للجدل سياسيا."
نماذج على هذا الغرار يمكن سردها إلى ما لا نهاية.. لكن تبقى المشكلة الأكبر، وهي ليست المتطرف الهامشي الذي يهلل لقتل الأطفال الفلسطينيين في غزة أو التهليل مع سقوط أي قنبلة إسرائيلية على بيت.. المشكلة الأكبر، هي التيار الرئيسي الإسرائيلي، الذي تحدث بصوت واحد أثناء الحرب، وبعدم التعاطف مطلقا تجاه أي نوع من المعارضة، أو حتى أبسط التعاطف الإنساني مع التضحية الفلسطينية والمعاناة وإراقة الدماء.
الامر برمته يتعلق بالتجرد من الإنسانية، طالما لا يرى الإسرائيليون الفلسطينيين كبشر متساوون لن يكون هناك حل حقيقي.. للأسف، تجريد الفلسطينيين من الإنسانية، أصبح أفضل أداة لتعزيز الاحتلال، لتجاهل وانكار جرائمه ليتيح للإسرائيليين العيش في سلام، بدون أي معضلات أخلاقية.. إن لم يكن الفلسطينيون بشرا، ليس تكون هناك تساؤلات بشأن حقوق الإنسان.. هذه العملية بلغت ذروتها في هذه لحرب، وهذا هو الأساس الحقيقي للعمى الأخلاقي الذي يغلف إسرائيل.
من أعظم أصول إسرائيل، بجانب كونها أكبر مصادر فخرها، هي مجتمعنا الليبرالي الديمقراطي الحر، لكن ما نفعله بأنفسنا حاليا هو أكبر تهديد لوجودنا حتى من صواريخ حماس، إسرائيل تصف نفسها على أنها "الديمقراطية الوحيدة" بالشرق الأوسط، لكنها في الحقيقية ديمقراطية مقصورة على مواطنيها اليهود من يسارعون للانحياز للتيار السائد مع كل مرة تتوغل فيها الدبابات عبر الحدود.
ربما لا يبدو الأمر على هذا النحو دائما، لكني أخشى أنها ظاهرة جديدة وجدت لتبقى، ما من أحد هنا لوقفها، وسائل الإعلام الإسرائيلي، التجاري والحر، تتعاون معها، الأنظمة التشريعية والقانونية في تراجع، كما هو واقع حال النظام السياسي، سنحمل جراح هذا الصيف معنا من الآن فصاعدا.. الأشخاص من يخشون الحديث علنا ضد العدوان الإسرائيلي هذه المرة، من غير المرجح للغاية وقوفهم المرة القادمة... هل يمكنك التفكير في أخبار أسواء من ذلك من إسرائيل؟