هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
ما الذي يدفع المواطن إلى التصويت إلى هذا الحزب واستبعاد آخر؟ لماذا تكثر السياسات الاحتجاجية في دولة وتخفت في أخرى؟ لماذا تتراجع العقلانية في المشهد السياسي في هذا البلد أو ذاك؟ ما الذي يجعل لقائد معين كاريزما وحضور بينما يعوزها سياسي آخر لا يتمتع بأي شعبية أو عوامل جذب؟ هذه الأسئلة وغيرها من أهم ما شغل علماء السياسة وتحديدا في مجال النظم المقارنة في العقود الثلاثة الأخيرة. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينات، عاد الجدل القديم بين علماء السياسة حول ما إذا كان البشر يتعاطون مع السياسة بعقلانية ورشادة تبحث عن تحقيق مصالحهم وتعظيم مكاسبهم أم باندفاع عاطفي يعبر عن مشاعرهم لا عقلهم؟
تذكرت ذلك الجدل وأنا أتابع حال المصريين خلال السنوات الثلاث والنصف السابقة صعودا وهبوطا بين رغبة في التغير والإصلاح وبين سكوننا واستسلام للأمر الواقع بحثا عن الاستقرار، بين المجازفة باختيار تيار سياسي لم يعاصروا حكمه من قبل وبين العودة إلى تأييد قائد عسكري يذكرهم بعبد الناصر، بين الثورة وبين الاحباط وبين إثارة السلامة و"المشي بجانب الحائط" ثم الانقلاب على الثورة. فلا شك لدي أن كثيراً من المشاعر والعواطف وقليلاً من الرشادة تتحكم في خيارات المصريين السياسية، حتى أن الباحثين لا يستطيعون حتى الآن التوقع الدقيق لتوجهات المصريين السياسية ولا بالعوامل التي تتحكم في سلوكهم السياسي، بيد أن بعض شركات الدعاية السياسية والأجهزة السيادية على ما يبدو طورت قدرا من العلم لفهم مشاعر المصريين وتوجهاتهم السياسية وهم بذلك وفروا حدا أدنى من الفهم وبناء عليه من تطوير سياسات للتحكم في تلك الخيارات والسلوكيات السياسية. دفعني هذا الموضوع للبحث في عالم ما وراء الدساتير والقوانين والمؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية كأدوات وأطر تقليدية لفهم السياسة، نحو عالم أرحب فيه علوم بينية غير تقليدية تم تطويرها تعتمد على علمي النفس والاجتماع لفهم ومن ثم التحكم في السلوك السياسي للمواطنين.
في رحلة بحثي القصيرة هذه وجدت كتابين على درجة عالية من الأهمية ساعداني فى فك الكثير من طلاسم الأمر، الأول هو كتاب "السياسات الحالمة" "Passionate Politics" الصادر في عام 2001 وحرره "Goodwin Jeff" وآخرون، ويحكي عن المشاعر وعلاقتها بسياسات الحركات الاجتماعية والسياسات الاحتجاجية، والآخر هو "السياسة والمشاعر: ظاهرة أوباما" Politics and Emotions: The Obama Phenomenon" والصادر في 2011 وحرره "Marcos Engelken" وآخرون ويتحدث عن علاقة المشاعر بالسلوك السياسي مركزا على صعود ظاهرة أوباما في السياسة الأمريكية. في الكتابين هناك اتفاق على ست ملاحظات رئيسية فيما يتعلق بالعلاقة بين المشاعر والسياسية:
أولا: بعد عقود من عدم الاهتمام بالمشاعر ودورها في تشكيل السلوك السياسي للمواطنيين عاد الاهتمام بها مرة أخرى ليطغى على نظرية الرشادة التي ارتبطت بانتشار الفكر الليبرالي، والتي تفترض أن المواطنين يتمتعون برشادة وعقلانية في قرارتهم وحسابتهم السياسية ويسعون نحو تعظيم مصالحهم، وبالتالي فإن دراسة وتحليل الظواهر السياسية بالاستناد إلى المفاهيم التقليدية كالقوة والدولة والمؤسسات والقوانيين والهياكل يظل قاصرا عن فهم تطور الظواهر السياسية والتي أصبحت وخصوصا فى عصر ثورة الاتصالات تتسم بقدر كبير من الانفعالات غير الرشيدة المستندة إلى المشاعر.
ثانيا: بعكس الافتراضات التقليدية لمدرسة الحداثة، فإن السلوك السياسي لمعظم المواطنيين لم يعد من الممكن تحليله بالحسابات التقليدية للانتمائات الأيدولوجية والحزبية، ولكن لا يمكن فهمه إلا في إطار فهم البيئة الثقافية للمواطن والتي تشكلت عبر مؤسسات التنشئة التقليدية من الأسرة مرورا بالمدرسة وصولا إلى المؤسسات الدينية المختلفة، والتي تتحكم في ميول المواطن السياسية وطريقة تفاعله مع المجتمع.
ثالثا: إن السلوك السياسي لمعظم المواطنين يدور حول مشاعر الخوف والغضب والثقة والأمل، فتفاعل المشاعر الأربعة هذه كفيل بتحديد وجهات المواطن السياسية وسلوكه التصويتي وسياساته الاحتجاجية. فعلى سبيل المثال، كلما زادت درجة الخوف لدى الناخب فإنه يميل إلى التصويت المحافظ إلى المؤسسات والأشخاص التي يشعر تجاهها بالثقة لا بالانتماء الفكري أو الحزبي، بينما كلما زادت درجة الغضب، قلت درجات الثقة، ومن ثم مال المواطن إلى التصويت العقابي أو التصويت بالاستبعاد، بينما شعور المواطن بالأمل يدفعه إلى الاقبال على خيارات سياسية مغامرة وغير محسوبة وغير تقليدية وهكذا.
رابعا: تزايد السياسات الاحتجاجية للمواطنيين في شكل مظاهرات واضرابات واعتصامات يعود بالأساس لتزايد الشعور بالغضب وغياب الأمل في الأطر الرسمية، وتحول هذا الغضب إلى فعل منظم ناجح كإنشاء حركات احتجاجية، يتوقف على الشعور بالثقة بين أعضاء الحركة، بينما مشاعر الحقد والغيرة والحسد تكون من أهم أسباب انهيار الحركات الاحتجاجية.
خامسا: بالإضافة إلى المؤسسات التقليدية مثل المدرسة والأسرة ودور العبادة، فإن الإعلام أصبح يلعب دورا محوريا في تشكيل وعي المواطنين وخياراتهم السياسية، ومن هنا فإن فن البيع والدعاية أصبح مرتبطا بصناعة الحملات الانتخابية التي تقوم بترويج برامج الحزب ومرشحيه وبتسويق "صور" المرشحين لكسب ثقة الناخب وجذبه بعيدا عن مدى جدوى وأهمية هذه البرامج وقدرات هؤلاء المرشحين.
سادسا: تؤكد الدراسات الحديثة أن الديموقراطية تراجعت بحدة وأصبحت تواجه تحديات حقيقية وخصوصا في شكلها التمثيلي أمام هجمة شركات الدعاية والإعلام والمال السياسي ولعبه على عواطف ومشاعر الناس لاستمالتهم بعيدا عن الرشادة، بحيث تحولت السياسة إلى لعبة تسويقية للأحزاب والمرشحين لاقناع الزبون "الناخب" بالشراء!
يخلص الكتابين إلى أن العصر القادم هو عصر الدعاية الإعلامية والقدرات التسويقية واللعب على الأبعاد النفسية والثقافية للناخبين، في مقابل تراجع عصر السياسات الرشيدة وصياغة البرامج الحزبية وقدرات المرشحين حتى في أعتى الدول الديموقراطية!
بالعودة إلى المشهد المصري، وأخذا في الاعتبار غياب المؤسسات التمثيلية والحزبية القوية، فضلا عن تراجع ثقافة الديموقراطية، يمكننا أن نصل إلى نتيجتين مبدئيتين:
الأولى: أن الشعب المصرى يميل بشكل عام للعاطفة وهكذا هي شعوب الشرق عموما، وبالتالي فخيارات المصريين السياسية هي خيارت عاطفية بالأساس، تحركها مشاعر الخوف والغضب والثقة والأمل بعيدا عن أي حسابات معقدة أيدولوجية كانت أو تنظيمية، ومن ثم فتبقى هذه الخيارت مؤقتة وقابلة للتحول والانقلاب أو الارتداد السريع، فبالتالي التسرع بوصف انحياز قطاع من المصريين لثورة يونيو/حزيران بأنه عشق للقمع أو رفض للحرية أو عبادة للبيادة هو من قبيل السذاجة والسطحية والنرجسية في الحكم على الأمور، فبدون تفهم مشاعر هذا القطاع من خوف على البلد من الانهيار ومن تغير نمط حياته الشخصية (بصرف النظر عن مدى دقة هذه المخاوف) والتي دفعته إلى ذلك التحيز يبقى التحليل ناقصا. وبالعكس فإن اعتبار قطاع المدافعين عن الرئيس السابق مرسي هم مجرد إرهابيين أو خراف أو مهوسيين أيضا تحليل غير دقيق، طالما أنه لا يأخذ في التحليل والفهم البعد العاطفي في الحلم بالمشروع الإسلامي (بغض النظر عن واقعية هذا الحلم) بعد أن شعروا أو اعتقدوا بالاقتراب منه ثم انهار الحلم فجأة!
الثانية: يجب أن نعترف أن العمل الحزبي والمؤسسي سيأخذ وقتا حتى يتمكن من التغلغل في حسابات المصريين السياسية، وأن لعبة الإعلام والتسويق السياسي شئنا أم أبينا ستلعب دورا هاما لفترة من الوقت في تحديد الخيارات السياسية للمصريين، ومن هنا فعلى الأحزاب والتيارات السياسية فضلا عن الباحثين السياسيين أن يبذلوا جهدا أكبر خلال المرحلة القادمة للاطلاع على علم النفس السياسي وبرامج التسويق والدعاية باعتبارها أدوات مساعدة في تعضيد الوجود السياسي البراجماتي على الأقل في المرحلة الحالية.