رأي.. فرصة للعرب وأهل الجوار أيضاً

الشرق الأوسط
نشر
8 دقائق قراءة
تقرير جميل مطر
رأي.. فرصة للعرب وأهل الجوار أيضاً
Credit: AHMAD AL-RUBAYE/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم: جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة "الشروق" المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN

فرحتان غمرتا قلوباً في العالم العربي على امتداد الأيام العشرة الأخيرة.

صناع سياسة ومحللون وإعلاميون عرب ابتهجوا حين ألقى أوباما بيانه..  أعلن فيه قراره الإذن لطائراته قصف مواقع في شمال العراق.. كان البيان في نظر هؤلاء بمثابة وعد باستئناف أمريكا سياسات التدخل العسكري في الشرق الأوسط.

بمعنى آخر تجدد الأمل لدي هؤلاء بأن يكون أوباما قد أعاد النظر في سياسة إيلاء الأولوية لاستخدامات القوة الناعمة والامتناع عن الفعل العنيف والمكلف في تنفيذ السياسة الخارجية.. ها هي أمريكا تتخلى في هذا البيان عن قاعدة الانكفاء النسبي على الداخل.

مرة ثانية عمت بهجة وانشراح في بعض شرائح النخب السياسية العربية ونخب الجوار.. كانت عندما تبادل البعض في السر وأحياناً في العلن فكرة أن الفرصة حلت أخيراً ليعرف الغرب أن القضية الأخطر حالياً في منطقة الشرق الأوسط، ليست القضية الفلسطينية.. وهي ليست قضية صراع بين شيعة وسنة، ولن تكون، على عكس عديد التنبؤات وسيناريوهات مراكز العصف الفكري، وعلى عكس أوهام وأحلام تمني.. وهي ليست قضية صراع قديم يبعث من جديد بين فرس وأتراك، أو صراع متجدد دائماً بين أتراك وأكراد.. كما أنها لن تكون حول سباق بين عرب وفرس، أو حول حلم عثماني يجري تحديثه.

التهديد الأكبر الذي تجسد للقادة العرب، وكشفت عنه أحداث الأسابيع الأخيرة، وأكدته العودة الأمريكية المفاجئة والاتصالات "المجنونة" الجارية حالياً، بين قادة في عواصم عربية وإقليمية عديدة، هو الزحف "الجهادي" المتشبه بزحف قطعان الوحوش، على بلاد مأهولة بحضارات متنوعة، وبشر لا يبتغون إلا العيش في سلام.

لا أستهين بالترددات المنبعثة عن هاتين الفرحتين، وهاتين الفرصتين.. وأدعو المنتبهين من المتخصصين وصناع السياسة إلى بذل جهد غير تقليدي في محاولة لاستقراء المستقبل من ثنايا هذه الترددات.. من وجهة نظري يبدو لي أن الفرحتين، الفرحة بالعودة الأمريكية والفرحة بانخفاض موقع القضية الفلسطينية في سلم قضايا الشرق الأوسط، أكدتا حال العجز الرهيب الذي أقعد حكومات العرب، وكذلك حكومتي طهران وأنقرة بدرجات ونتائج متفاوتة.

لاحظنا بغيظ وضيق كيف أن الشعور بالعجز جاء هذه المرة مضاعفاً، وله ما يبرره، خاصةً بعد أن تعمق خلال أزمة سوريا.. هناك فشلت الدول العربية جمعاء، وتركيا وإيران ودول أوروبا وأمريكا وروسيا، في منع الفوضى ووقف تردي الأوضاع، والحيلولة دون انفراط قطر عربي.. هؤلاء جميعاً فشلوا أيضاً في حل أزمة الحكم والتكامل الوطني في العراق.. ثم فشلوا، بكل المعايير، في إنقاذ أهل غزة من مذبحة نصبها لهم بنو إسرائيل، شعباً وشتاتاً وحكومة.. وبعد الفشل في وقف العدوان على غزة فشل العرب، وغيرهم أيضاً، في دعم جيش العراق عند أول مواجهة له مع القوى الجهادية الزاحفة من شمال العراق ومن شرق سوريا نحو بغداد، ولم تكن الاستعدادات للزحف خافية.

الفشل عربي في الأساس والجوهر وفي المحصلة النهائية، ولكنه أيضاً إيراني وتركي ودولي.. عربي في الأساس والجوهر لأن  كافة المحاولات من جانب غير العرب تكسرت على صخرة "العجز" العربي، سواء اتخذ هذا العجز شكل الاهتمام الملفت بالخلافات الشخصية بين الحكام، أو فساد أجهزة الحكم، أو عشوائية التخطيط الاقتصادي الإقليمي والتجارة البينية، أو اتخذ شكل مزايدات ومناوشات طفولية بين أنظمة حاكمة، أو غياب عقيدة نضال وجهد وعمل عربي أو نقص الشعور بحتمية المصير المشترك.. ألا يدعو للشفقة أن تغوص مجتمعاتنا ودولنا منذ سنوات في واقع متواصل التدهور وهي لا تعلم أنه جزء من المصير المشترك حل مبكراً.

أظن أن لدى كثيرين من أبناء جيل مختلف وأصحاب عقل مغاير أملاً في أن يكون قد تسرب إلى العقل السياسي العربي، وبخاصة عقل الشارع العربي، حقيقة أن الحل أو الحلول لقضايا المنطقة لن يأتي من الخارج..  جرب المجتمع الدولي حظه وفشل.. ويبدو لي أن الغرب لم يجن من تجربته في المنطقة، وبخاصة خلال السنوات الأخيرة، سوى حمرة الخجل، وانكشاف سوء النية، وتخبط السياسات، وتدني الأداء.

هناك أمل، لا أخفيه أو أقلل من شأنه، أن تكون طوائف العرب ومذاهبهم وأحزابهم على وشك أن تدرك أن الخطر الزاحف لن يفرق بين طرف وآخر أو بين إنسان وآخر..  لم يشهد أي منها حسب ما أعلم، في أي وقت من تاريخنا المعاصر، خطراً مثل هذا الخطر..  بل أكاد أجزم أن الدول والمجتمعات التي مولت في السابق هذه الحركات الجهادية المتشددة أو غيرها، نادمة الآن على ما فعلت، دول ومجتمعات تجد نفسها محاصرة، أو شبه محاصرة، بالرعب المتدفق عبر الحدود، كافة الحدود.

يقول سفير أمريكا السابق في بغداد إن الزحف المتوحش لن يتوقف عند حدود السعودية والأردن، وقرأنا عن مسؤول قطري اتهم السعوديين بأنهم هم الذين مولوا داعش في سوريا..  نسى هذا المسؤول الدور الذي تلعبه قطر في تمويل جماعات أخرى وتوجيهها وحمايتها، وأظن أنه، مثلنا تماماً، لا يعرف السبب أو المصلحة الوطنية القطرية التي تبرر ممارسة هذا الدور.

ما أعرفه من أصدقاء هنا وهناك، أن هذه الدول والجماعات التي أشعلت فتيل "التطرف الجهادي" قبل ثلاثين أو أربعين عاماً، واستمرت تغذيه بالمال والعتاد والحماية إلى عهد قريب، وربما وجدت جماعات مازالت تفعل ذلك، هذه الدول تشهد حالياً "انقسامات" داخل ائتلافات الحكم فيها حول استمرار هذا الدعم، وحول كبش فداء يتحمل المسؤولية.

أتصور أن الفرصة التي كانت تسمح، ولو في حالات معدودة، لدولة عربية أن تكتفي بقواتها الذاتية لحماية حدودها، فاتت ولن تعود.. أتصور أيضاً أنه على الرغم من بيان أوباما الذى أشرت إليه في بداية هذا المقال، ومن العمليات الجارية لإنقاذ حياة عشرات الألوف من أبناء الأقليات في شمال العراق، لن تقوم أمريكا أو غيرها من القوى الدولية، بالتدخل السريع والقوي، في المستقبل القريب لصد عدوان زاحف على أي دولة عربية.

وبصراحة مطلقة، لا أعتقد أن قوات من باكستان أو من مصر، ستكون الحل الدائم والناجح لوقف زحف جهادي على حدود دولة أو أخرى في العالم العربي..  لن يفيد إنزال سريع لوقف حرب مخطط أن يطول أمدها، وفي نية مخططيها أن يذبح المجاهدون في زحفهم أي عدد من الأطفال، ويغتصبون أي عدد من النساء، ويدمرون أي عدد من المساكن وبيوت الحضارة والعلم.. لا جيش نظامي عربي، حسب ما أعرف، لديه من الخبرة والوحشية ما يسمح له بفرض الهزيمة المحققة على هكذا مقاتلين..  في الوقت نفسه، لا يوجد في العالم العربي الجيش الذى يملك ترف أن يترك أرض بلاده وثرواتها وحدودها لمدة قد تطول ليساعد جيشاً عربياً آخر، له قيادته الوطنية أو الأجنبية، ومدرب تدريباً مختلفاً.. فما بالنا وحدود العرب، كلها، مهددة بقوات جاري الآن حشدها وتحديد وجهاتها وأهدافها.

أعود فأقول إن الفرصة متاحة ليجتمع العرب، ومعهم إن شاءوا أهل الجوار كلهم أو بعضهم، للعمل معاً.. يقررون خطوات سياسية، ويشكلون قيادة مشتركة، ويعبئون جيوشهم وشعوبهم ومواردهم.

الفرصة متاحة أكثر من أي وقت مضى، لأنهم خائفون كما لم يخافوا من قبل.