رأي.. توظيف فكرة المؤامرة

الشرق الأوسط
نشر
9 دقائق قراءة
تقرير مصطفى كامل السيد
رأي.. توظيف فكرة المؤامرة
Credit: SAUL LOEB/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية.

حديث المؤامرة يلاحقنا في كل مكان، على صفحات الجرائد، وفي البرامج الحوارية على شاشات التليفزيون، وفي تصريحات السياسيين، وحتى في قاعات المحاكم، وفي مناقشات السياسة بين المواطنين. المؤامرات وراء كل ما يجرى في وطننا العربي. تمزق الدولة في العراق وسوريا هو مؤامرة، ثورات الربيع العربي مؤامرة، تاريخنا الحديث كله نتيجة مؤامرات، من توقيع اتفاقية سايكس بيكو في سنة 1916 حتى ثورة 23 يوليو في سنة 1952. ليست هناك حاجة لتدعيم هذا الإدعاء من جانب من يقولون بوجود مؤامرات وراء كل هذه الأحداث، فما يعتبر وقائع يجري تطويعها لكي تتسق مع التفسير التآمري للتاريخ.

ولا يسعفنا الأكاديميون بنفي أو بتأكيد هذا التفسير التآمري للتاريخ. هناك من يرفضه تماما، وهناك من يقبله. وفي رأي الكاتب لاشك أن هناك مؤامرات مؤكدة نعرفها في تاريخنا الحديث، أي أن هناك خطط شاء لها من رسموها أن تبقى قيد الكتمان، وقاموا بتنفيذها. طبعا هذا دور أساسي لأجهزة المخابرات في كل دول العالم، ولكن الذي يعنينا هو ما يقوم به قادة الحكومات وزعماء الأحزاب والحركات السياسية. من أشهر هذه المؤامرات في تاريخ مصر الحديث التخطيط للعدوان الثلاثي في صيف سنة 1956، كانت هناك اتفاقات سرية بين رئيسي الوزراء البريطاني والفرنسي، وربما كشفت تصريحاتهما عن نيتهما للهجوم علي مصر لاستعادة السيطرة على قناة السويس بعد أن أممها الزعيم جمال عبد الناصر، ولكنهما بوساطة رئيس الوزراء الفرنسي اتفقا سرا مع إسرائيل على أن تشاركهما في هذا الهجوم، وانكشف هذا الاتفاق السري مع إسرائيل بعد شهور من الهجوم الثلاثي الفاشل على مصر. وهناك أيضا المؤامرة التي تورط فيها كل من دافيد بن جوريون وموشى دايان من القادة الإسرائيليين خارج الحكومة في سنة 1954 وبدون علم وزير الدفاع اسحق لافون ورئيس الوزراء الإسرائيلي موشي شاريت في ذلك الوقت، وذلك للإساءة إلى علاقات مصر بكل من الولايات المتحدة وبريطانيا وكانت قد تحسنت في أعقاب توقيع إتفاقية الجلاء في ذلك العام، من خلال تجنيد يهود مصريين للقيام بتفجير منشئات أمريكية وبريطانية في القاهرة، وهو ما اكتشفته أجهزة الأمن في مصر، ولكن دون أن تصل إلى كل أبعاد هذه المؤامرة.

***

هذا صحيح. هناك مثل هذه المؤامرات التي تكشف عنها وقائع محددة، ولكن القفز من ذلك إلى إدعاء وجود مؤامرة وراء كل ما يحيط بنا من أحداث كبرى هو إدعاء لا تسنده أدلة ملموسة -- مصطفى كامل السيد، بل إنه في بعض الحالات يتناقض تماما مع ما نعرفه، ومع منطق السلوك الإنساني. وقد يكون تصديق وجود مؤامرة مقبولا من جانب الرأي العام عندما لا تتوافر معلومات كافية وخصوصا عندما يبدو سلوك بعض الفاعلين السياسيين مفتقدا للرشادة. طبعا تقدير الرشادة يختلف من فرد لآخر، وقد تتناقض رشادة السلوك الفردي مع رشادة السلوك الجماعي. ما قد يبدو سلوكا رشيدا من جانب من انضموا إلى ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام يتناقض مع مصلحة العراقيين كأبناء دولة واحدة، والرشادة من وجهة نظر حماس قد تتناقض مع مصلحة الحركة الوطنية الفلسطينية في الوحدة الفلسطينية. وهذه أمور بالغة الوضوح، ولكن عندما يصر أعضاء داعش على سلوك يضر بمصلحة العراق كوطن وبصورة الإسلام الذي يدعون رفع رايته، وعندما يصر قادة حماس على رفض التنسيق مع السلطة الفلسطينية على نحو يحقق مصلحة الفلسطينيين جميعا فلا يكون أمام الرأي العام إلا تصديق أن وراء السلوك الذى يفتقد العقلانية مؤامرة وراءها أعداء الإسلام في حالة داعش ووراءها قطر وتركيا وربما إسرائيل في حالة استمرار النزاع بين حماس وفتح.

***

قد يكون ذلك مفهوما عندما يتعلق الأمر بالرأي العام، ولكن هناك حالة يتعمد فيها قادة سياسيون وحكوميون ادعاء وجود مؤامرة قفزا على الحقائق بل وبالكذب بلوي بعض الوقائع وتفسيرها على نحو لا يستقيم مع حقائق مؤكدة -- مصطفى كامل السيد. هذا هو المقصود بالتوظيف السياسي لنظرية المؤامرة خدمة لمصالح ضيقة منها التهرب من المسئولية عن ممارسات خاطئة بل وشائنة من جانب هؤلاء القادة، وبإلقاء المسئولية عنها على عاتق فاعلين آخرين، أو لأن هؤلاء السياسيين لا يريدون. ولا يريدون لأتباعهم الإعتراف بدورهم فيما آلت إليه أحوالهم.

وهناك العديد من الأمثلة التي تؤكد هذا الميل للاستخدام السياسي لنظرية المؤامرة في واقعنا العربي والمصري الحاضر. خذ مثلا هذا الإدعاء بأن الولايات المتحدة هي التي تتآمر من أجل تمزيق الدول العربية بصراع الميليشيات في ليبيا، وباتساع سيطرة داعش في العراق وسوريا، بل وهي التى تآمرت لاسقاط النظم الإستبدادية في تونس ومصر واليمن وسوريا والبحرين. هذا الإدعاء يفترض أن الولايات المتحدة قادرة على تحريك الأحداث في كل أنحاء العالم وخصوصا في العالم العربي وأننا نعيش فترة إزدهار الهيمنة الأمريكية على العالم. ما رأيك عزيزي وعزيزتي من القراء في أن النقاش الذى يدور الآن في الولايات المتحدة هو حول انكماش القيادة الأمريكية للعالم في ظل رئاسة أوباما الذى يهتم أساسا بالأوضاع الداخلية، وأن نفوذ الولايات المتحدة قد انحسر في العالم العربي والشرق الأوسط عموما وذلك بسبب تركيز إدارة أوباما على المصالح الأمريكية في الشرق الأقصى، وأن أوباما يتجنب التورط في الصراعات الإقليمية. هل لا يدرك منتقدو أوباما من داخل حزبه وخارجه أن هناك أيدي خفية للولايات المتحدة تحرك الأحداث في كل أنحاء العالم، أم أنهم يعرفون على وجه اليقين أن مثل هذه الأيدي التي يزعمها سياسيون وإعلاميون عرب لا وجود لها في واقع الأمر.

خذ أيضا هذا الادعاء بأن الولايات المتحدة  قد تآمرت لإسقاط حسني مبارك في مصر وأنها هي التى دربت شبابا مصريا على التظاهر للإطاحة بنظامه. ما رأيكم في أن الولايات المتحدة في بداية الثورة ووفقا لما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية تثق في قدرة مبارك في إدخال الإصلاحات التى يريدها المصريون وهو ما أكده السفير الأمريكي الأسبق في القاهرة فرانك ويزنر والذي كان مبعوث الإدارة الأمريكية لتفقد الأحوال في مصر أثناء الثورة. ولم تتحرك الولايات المتحدة لمناصرة الثورة على مبارك إلا بعد أن بدا أن بقاء نظام مبارك أصبح مستحيلا، وهو ما أثار بالمناسبة غضب كل من إسرائيل والمملكة العربية السعودية اللتين كانتا تمارسان ضغوطا على الإدارة الأمريكية لمساندة نظام مبارك في تلك الظروف، وما رأيكم في أن كل ما كان يطمح له كل من أحمد ماهر( وهو في السجن بالمناسبة) ووائل غنيم (وهو خارج مصر بالمناسبة) كان مظاهرة كبرى تطالب بالإفراج عن المسجونين السياسيين ووقف التعذيب في السجون وإقالة وزير الداخلية. وقد فوجئا بانضمام ملايين من المصريين تلقائيا لهذه المظاهرات التى خططا لها. طبعا عندما يقال أن ثورة يناير كانت نتيجة مؤامرة أمريكية فالمراد أن ننسي تزوير انتخابات 2010، وتردي الخدمات العامة وتغول كبار رجال الأعمال في توجيه السياسة في مصر -- مصطفى كامل السيد على عهد مبارك.

كما يردد قادة الإخوان المسلمين خارج السجن أن سقوط حكمهم في مصر كان نتيجة مؤامرة أمريكية، ويردد آخرون أن وجودهم في الحكم هو المؤامرة الأمريكية -- مصطفى كامل السيد. الأولون لا يريدون الاعتراف بأن قطاعات واسعة من المواطنين خرجت ترفض حكمهم في 30 يونيو 2013، وأن اقصاء القوى السياسية الأخرى ومحاولة محمد مرسي تحصين أعماله ضد حكم القانون وعدم تأهل الإخوان لممارسة مهام الحكم هو الذي أدى إلى السخط الشعبي العارم عليهم.

والآخرون لا يريدون الإعتراف بأن النجاح الإنتخابي للإخوان هو نتيجة براعتهم التنظيمية وتواجدهم بين المواطنين.

وهكذا يا أعزائي القراء علينا التنبه عندما يجري حديث عن مؤامرة حولنا. نحن المسئولون عن ما يجري لنا، والذي يتحدث عن مؤامرة يكذب علينا -- مصطفى كامل السيد لأنه يريد التملص من مسئوليته عن عجزه أو عن أخطائه.